التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل كل يومٍ عاشوراء؟

بسم الله الرحمن الرحيم


يتداول الكثيرون في أوساطنا عبارة "كل يومٍ عاشوراء وكل أرضٍ كربلاء"، فهل هذه العبارة صحيحة؟ أم أنها مجانبةٌ للصواب؟

يتحدث السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في إحدى محاضرته تعليقًا على ذلك بعد أن ذكر عدة خصائص فريدة اختصَّت بها معركة الطف و يوم عاشوراء قائلاً: ".. لقد شاء الله أن تكون قضية الإمام الحسين (ع) استثنائية في كل جوانبها. ومن الاستثناءات التي تميز بها الإمام الحسين سلام الله عليه شدة الحزن والبكاء عليه وإقامة العزاء على مصابه، وشدّ الرحال لزيارته في كل مناسبة إسلامية مهمّة (..) ومن هنا فإنّ المقولة التي تردد أحياناً من أن كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء غير صحيحة لأنها تتعارض مع ما ورد من روايات المعصومين (ع) من أنه لا أرض مثل كربلاء ولا يوم كعاشوراء"(1)، و واضحٌ هنا هو أن رفض سماحة السيد للعبارة منطلقٌ من الرفض لتعميم خصوصية يوم عاشوراء و أرض كربلاء، و الذي بالتالي سيُقلَّل من قدر و قيمة يوم العاشر من المحرم في عام 61 هـ و كذا من قيمته في كل عامٍ، و سيُقلِّل من قيمة و خصوصية أرض كربلاء، و قداسة اليوم والأرض الخاصة بهما دون سواهما، و التي جاءت في التأكيد عليها نصوصٌ عديدة من بينها ما يُروى من حديث الإمام الحسن (ع) لأخيه الحسين (ع) عندما كان طريح الفراش حيث قال فيه: " لايومَ كيومك يا أبا عبد الله"(2).

هذا قطعي و بديهيٌ حينما تُتداوَل العبارة بالمعنى المُشار إليه، أي أن كل أرضٍ تحمل خصوصية و قداسة و قيمة كربلاء، و كل يومٍ يحمل خصوصية و قداسة و قيمة عاشوراء، ففي ذلك تأصيلٌ لفهمٍ خطؤه واضحٌ و بيِّن، لكن هل هي مُتداولةٌ بهذا المعنى أساسًا؟

ربما حسب معاينتي و معايشتي أرى أن التعامل بها في إطار هذا المعنى و بهذا الفهم في وَسَطي يكاد يكون نادرًا أو قليلاً في أعلى التقادير (3)، و ألحَظ أن هنالك تأويلان لهذه العبارة تداولهما أكثر من ذاك التأويل:
- الأول: هو أن زمن الحزن و الألم على مصاب سيد الشهداء (ع) ليس منحصرًا في يوم عاشوراء، بل في كل يوم و"لأندبنك صباحا ومساء"(4) و هذا المضمون واردٌ في قصيدة العلامة المحقق الشيخ الدمستاني حيث يقول:
فمن الواجب عيناً لبس سربال الأسى .. واتخاذ النوح وِرداً كُـلّ صبحٍ ومسا (5)

و ليس ذلك محصورًا في أرض كربلاء، بل ليس محصورًا حتى في الأرض التي يسود  و يكثر فيها الموالون لمحمد و آل محمد، و يتجلّى هذا المعنى كثيرًا لدى الإخوة المُغتربين عن أوطانهم، و لعلَّ المتأمِّل كذلك يجِد هذا المعنى متجسِّدًا في سيرة الإمام علي بن الحسين السجاد (ع)، حيث لم تنحصر إذاعة مصائب كربلاء و التذكير بها عنده في يومٍ أو مكان و إن كانت لأرض كربلاء و يوم العاشر خصوصيتهما. و من يتداول العبارة بهذا الفهم -حسب معاينتي- لا يعني من امتداد الحزن في كل زمانٍ و مكان انطباقَه، فلا ينزع من حزن يوم العاشر و حزن كربلاء خصوصيَّتَهما، و ليس في هذا المعنى ما هو مُجانبٌ للصواب أو ما يتعارض مع السبب المعلوم الرافض للعبارة حسب تصوّري.

- الثاني: هو أن يوم عاشوراء و أرض كربلاء يُمثِّلان تكليفَ رفض الباطل و الوقوف مع الحق و الاستعداد لبذل الغالي و النفيس من أجل الحق، و ذلك لاحتشاد المعاني السامية و المضامين الراقية في ملحمة العاشر.

و في ذلك يقول السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) -كما يُنقَل عنه(6)-: "الشعار الذي يتردد على ألسنتنا دائمًا (كل يوم عاشوراء) ماذا يعني؟ وماذا نقصد فيه عندما نردده؟ هل يعني أننا يوميًا يجب أن نتوشح السواد ونقيم المآتم فقط ولا نعمل أي شيء آخر؟ لا طبعًا.

هذا الشعار يعني أن يوميًا هناك مواقف تقترب من مواقف عاشوراء، هناك أناس يحملون الرسالة الإسلامية بمبادئها وأحكامها وهناك في الجانب الآخر المتهالكون على حب الدنيا والثروة والمكاسب المادية يتصدون لحملة الرسالة ، بمعنى آخر أن الإنسان يوميا يدعوه إسلامه للوقوف إلى جانب المبادئ التي حملها سيد الشهداء (ع) وهناك دعوة يوجهها له الشيطان للإنحراف عن هذه المبادئ بالإنتماء إلى معسكر عمر بن سعد وأصحاب الرذائل. 

إما أن تخدعنا الدنيا دار الغرور وننتمي إلى معسكر ابن سعد أعاذنا الله وإياكم منها وإما أن نتعلق بالآخرة ونزهد بالدنيا وملذاتها وننتمي إلى قافلة الإمام الحسين (ع) هذا هو الذي يجب أن نفهمه من معنى الشعار المذكور، طبعا لبس السواد وإقامة الشعائر على سيد الشهداء هذه من الضروريات اللازمة على كل محب لأهل البيت (ع) وهو من الأعمال التي لها فضل ومقام عند الله سبحانه وتعالى ولكن كلامنا هو أننا كما يجب أن نتمسك بمظاهر الحزن وإقامة الشعائر، كذلك يجب أن نفهم حقيقة الشعائر ومضمونها ومحتواها الأصيل الذي أراده منـّا الإسلام ، لذا يجب عليكم أن تختاروا لأنفسكم بأن تكونوا في صفوف جيش الإمام الحسين (ع) لا في صف يزيد وأتباعه وعليكم إحياء كربلاء الحسين لكي يزداد أنصار معسكر الإمام الحسين (ع) وعندئذ صلاح الدين والدنيا".

وإلى ذات المعنى يُشير السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) حيث يقول: "(كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء)! إنها كلمة عظيمة، يسيئون فهمها. إنهم يتصورون بأن معناها هو ضرورة البكاء كل يوم! ولكن مضمونها ليس كذلك. ماذا عملت كربلاء؟ أي دور أدته ارض كربلاء في يوم عاشوراء؟ ينبغي أن تكون كل أرض هكذا! إن دور كربلاء كان يتمثل بمجي‏ء سيد الشهداء الحسين (ع) ومعه فئة قليلة إلى كربلاء ليقفوا بوجه ظلم إمبراطور الزمان يزيد، فضحوه فقتلهم، لكنهم لم يقبلوا الظلم فهزموا يزيد. لابد أن يكون كل مكان هكذا! ولابد لشعبنا أن يدرك أن اليوم هو عاشوراء، فلابد لنا من الوقوف بوجه الظلم. وأن هذا المكان هو كربلاء! فلابد لنا من تنفيذ دور كربلاء، فليكن كل يوم عاشوراء لأنه ليس محصوراً بأرض محددة ولا بأفراد معينين. فكل الأرض وكل الأيام يجب أن تؤدي هذا الدور"(7).

و هذا المعنى الذي يُشير إلى التكليف المُراد الذي لا يَمسُّ قيمة و قداسة يوم العاشر و أرض كربلاء و خصوصيتَهما، و لا يشير إلى انطباق كل يوم العاشر مع كل أي يوم و لا انطباق كل أرض كربلاء مع كل أي أرض، لا يبدو فيه -حسب إدراكي- أيُّ تعارضٍ بين سبب الرفض بالمعنى الأول و سبب القبول بهذا المعنى، و لعلَّ الكثير من العلماء يرَون أو يقطعون أن سيرة أهل البيت (ع) تؤكد على هذا المضمون و على استمرار هذا التكليف و أداء فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر -التي برزَت أيّما بروز في يوم العاشر بكربلاء- في كل يومٍ و أرض، و إن استدعى الظرف شكلاً آخر للتكليف مختلفًا عن شكله في يوم العاشر، فلكلِّ ظرفٍ طبيعته التي تفرض لونًا آخر من ألوان أداء التكليف، و سيرة أهل البيت (ع) حافلةٌ بالشواهد على تعدُّد ألوان و أشكال أداء هذا الدور لاختلاف الظروف المحيطة و مقتضياتها.


-------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) من محاضرةٍ لسماحة السيد بعنوان "لا أرض مثل كربلاء ولا يوم كعاشوراء"
http://www.s-alshirazi.com/lectuer/amah/sham.gariban.htm
(2) من كتاب جواهر التاريخ للشيخ علي الكوراني العاملي نقلاً عن أمالي الصدوق
(3) طبعًا هنالك رأي لغوي في المسألة، حيث أن للتشبيه أحكامه، و قد ينفي حكم أهل اللغة ما سأقوله و قد لا يفعل؛ لأني لم أتأمَّل ذلك جيدًا. و لذلك أؤكِّد بأن كلامي قاصرٌ ما دام لم يتعرَّض لهذه الناحية، و لكنه فقط يتناول المعنى المُتداول و صحته من عدمه و الأقوال في ذلك و رأيي الخاص.
(4) زيارة الناحية المقدسة المنسوبة للإمام المنتظر (عج)
(5) من قصيدته المعروفة "أحرم الحجاج".
(6) يُشاع أن هذا القول مُقتبَس له من كتاب "المبلّغون والتربية العلمية"، لكني و رغم سَعيي للحصول على هذا الكتاب في شبكة الانترنت و التحقُّق من العبارة إلا أنني لم أجِده.
(7) نقلاً من موقع دار الولاية للثقافة والإعلام عن صحيفة الإمام ج 10

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل