التخطي إلى المحتوى الرئيسي

دليل زيارة الأربعين: أ يتيمةٌ مُبهَمة؟

بسم الله الرحمن الرحيم

يُشاع: إن ما يُستَدَلُّ به على استحبابٍ خاصٍّ لزيارة الحسين (عليه السلام) في أربعينه مُنحَصِرٌ في ما رواه المفيد مُرسَلاً في مزاره عن العسكري (عليه السلام)، ونصُّه: روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) أنه قال: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختُّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)(1)، وبما أنَّ لفظ "زيارة الأربعين" فيها يُراد به زيارة أربعين مؤمنًا، أو أنه لفظٌ مُبهَم، لا يُدرى المُراد به، فبالتالي فينتفي الدليل على استحبابٍ خاصٍ لـ(زيارة الأربعين)، فهل صحَّ هذا المُشاع؟

أولاً: إن ما ذُكِر من انحصار الدليل في الرواية المذكورة غير تام؛ إذ روى المفيد في مزاره الكبير مُرسلاً(2) والطوسي في مصباحه مُسندًا(3) روايةً أخرى -وهي عن الصادق (عليه السلام)- تنصُّ على زيارته (عليه السلام) في أربعينه، ولننقل شيئًا من رواية الشيخ لها، قال (رحمه الله): أخبرنا جماعةٌ، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدَّثنا محمد بن علي بن معمَّر، قال: حدَّثني أبو الحسن علي بن محمد بن مسعدة والحسن بن علي بن فضَّال، عن سعدان بن مسلم، عن صفوان بن مهران، قال: قال لي مولاي الصادق (صلوات الله عليه): في زيارة الأربعين، تزور عند ارتفاع النهار وتقول: السلام على وليّ الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه...(4).
والقول باعتبار سند هذه الرواية غير بعيدٍ لاستغناء كتب بني فضّال في عصر الشيخ الطوسي عن السند؛ لتواترها كما نبَّه على ذلك بعض الأعلام(5)، ولرواية طائفةٍ من الأجلاّء عن سعدان بن مسلم وعدم ورود القدح في شأنه وقد نبَّهَ على ذلك وفصَّل فيه أحد أعلام متأخِّري المتأخِّرين(6).

ثانيًا: روى ابن طاووس في مصباح الزائر رواية زيارة الصحابي جابر الأنصاري (رضوان الله عليه) للحسين (عليه السلام) في أربعينه بتمامها بما يشمل نصَّ ما زار به، ثمَّ قال (رحمه الله): زيارة ٌ أخرى للحسين (صلوات الله عليه) في اليوم المُشار إليه...(7) وذكر الرواية التي أشرتُ لها آنفًا، ولعلَّ الظاهر من ذلك أنه استظهر منها -أو احتمل- أن الزيارة التي زار بها (رضوان الله عليه) ليست من إنشائه وأن للأربعين فيها خصوصيّة، وهو غير ممتنعٍ وإن كان مجال النقاش فيه واسعًا.

ثالثًا: "الأربعين" مُحلاّةٌ بـ"ال"، والظاهر كونها عهديةً، ولا معهود في نفس الرواية، ولم تقم قرينةٌ خارجيةٌ دالةٌ على أن المعهود هو أربعون مؤمنًا، بحيث يُفهَم منها أن المُراد من "الأربعين" الأربعون المذكورون في تلك الخطابات مثلاً.

رابعًا: انصراف ذهن المفيد(8) وبعده الطوسي(9) والمشهدي(10) -وهم الأقرب مِمَّن رواها لعصرها- وغيرهم بهذا النحو لأربعين الحسين (عليه السلام) -بدلالة تصنيفهم لها ضمن الروايات الواردة في هذا المقام- دالٌ على أن المتبادر لأذهانهم من لفظ الأربعين هو أربعين الحسين (عليه السلام)، وليس ذلك إلا لوجود هذا العهد في هذا اللفظ، أضِف لذلك أن رواية صفوان المتقدِّمة قرينةٌ يمكن اعتمادها للدلالة على أن المعهود هو زيارته (عليه السلام)، وإمكان ادِّعاء أن الأول -أي انصراف ذهن العلماء المذكورين- عائدٌ للثاني -أي لرواية صفوان- غير ضارٍّ -على وجهٍ- في خصوص هذا المقام وما هو من قبيله(11)، فينتفي بذلك الإبهام المُشار إليه.

والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


----------------------------
(1) المزار (المفيد): ب23 فضل زيارة الأربعين، ص53.
(2) المزار الكبير (المفيد): ب1 الزيارات، ف4 في ذكر زيارات أبي عبدالله الحسين (ع)، زيارة يوم العشرين من صفر...، ص296.
(3) مصباح المتهجد [ط مؤسسة فقه الشيعة]: صفر، شرح زيارة الأربعين، ص788.
(4) المصدر السابق.
(5) ومنهم السيد السيستاني، حيث قال ابنه السيد محمد رضا حاكيًا قولَه (حفظهما الله): "وهو أنّ الحاجة إلى السند في اعتبار الكتاب إنما هي في غير الكتب المشهورة التي يكثر تداول نسخها، وأمّا هذه الكتب -كالكتب الأربعة في الأعصار الأخيرة- فلكونها مأمونةً عن الدسِّ والتحريف، فهي مستغنيةٌ عن السند. والظاهر أن كتب ابن فضّال كانت من الكتب التي تكثر نسخها وتتداولها الأيادي في عصر الشيخ (قدس سره)، بل وقبل ذلك، ففي رواية الحسين بن روح عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه سئل عن كتب بني فضّال كيف نعمل بها وبيوتنا منها ملاء؟ فقال (عليه السلام): خذوا بما رووا وذروا ما رأوا" (قبسات من علم الرجال: ف7 في أسانيد الصدوق والشيخ إلى عددٍ مِمَّن...، سند الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال، ص275).
(6) وهو الوحيد البهبهاني، حيث قال (رحمه الله): "في رواية هؤلاء الأعاظم عنه شهادةٌ على كونه ثقةً، سيّما وفيهم صفوان، ويشهد عليه أيضًا رواية ابن أبي عُمَير عنه، وأنّ القُمّيّين رووا روايته سيّما أحمد بن محمد بن عيسى وابن الوليد منهم، وأن الأصحاب حتى المتأخّرين ربما يرجحون روايته على رواية الثقة الجليل، بل وعلى رواياتهم..." (منهج المقال (الاسترابادي): ج5، [2451] سعدان بن مسلم، ص374، الحاشية).
(7) مصباح الزائر: ف10 ذكر زيارة الحسين (ع)...، زيارة الأربعين...، ص288.
(8) المزار (المفيد): ب23 فضل زيارة الأربعين، ص53.
(9) مصباح المتهجد: صفر، شرح زيارة الأربعين، ص787.
(10) المزار الكبير (المشهدي): ق4 في زيارة أبي عبدالله الحسين (ع)...، ب11 فضل زيارته في الأربعين...، ح1، ص352.
(11) وذلك عند اعتبار رواية صفوان، إلا أنَّ الظاهر أن هذا العهد عامٌ غير منحصرٍ بِمَن روى هذه الرواية أو اعتمد عليها، ويدلُّ على ذلك ما قاله أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني: وفي العشرين رُدَّ رأس الحسين إلى جثَّته حتى دُفِنَ مع جُثَّته، وفيه زيارة الأربعين، وهم حرمه بعد انصرافهم من الشأم (الآثارالباقية عن القرون الخالية [ط دار صادر]: ص331)، نعم قد يُقال أنَّ دلالة كلام البيروني غير صريحةٍ في المُدَّعى، وهو صحيحٌ، إلا أن دلالتها تنكشف مع التأمُّل، وإن انكشفت فلا يمنع من الأخذ بها عدم اتضاحها في الوهلة الأولى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل