مقال: مقاربةٌ لبعض الإثارات حول زيارة الأربعين
علي يعقوب - مجلة رسالة القلم (٥٣)
يتناول عدة إثارات حول زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين، وهي:
▫ هل رواية (علامات المؤمن) مُستَلَّةٌ من كتاب الهداية الكبرى للخصيبي؟
▫ هل المُراد من (زيارة الأربعين) مُبهَم؟
▫ هل هناك دليلٌ آخر على الاستحباب غير رواية (علامات المؤمن)؟
▫ ما تقييم سند رواية صفوان؟
▫ هل المشي للحسين (ع) تقليد شعبي لا أكثر؟
▫ هل جاءت روايات المشي للحسين (ع) للمنع القياس على الحج؟
▫ هل المُراد من (زيارة الأربعين) مُبهَم؟
▫ هل هناك دليلٌ آخر على الاستحباب غير رواية (علامات المؤمن)؟
▫ ما تقييم سند رواية صفوان؟
▫ هل المشي للحسين (ع) تقليد شعبي لا أكثر؟
▫ هل جاءت روايات المشي للحسين (ع) للمنع القياس على الحج؟
للقراءة أو التحميل بهيئة المجلة:
https://goo.gl/h1ZP3G
للقراءة أو التحميل بتنسيقٍ آخر:
https://goo.gl/6btRVN
https://goo.gl/h1ZP3G
للقراءة أو التحميل بتنسيقٍ آخر:
https://goo.gl/6btRVN
مقاربةٌ لبعض الإثارات حول زيارة الأربعين
رغم اجتهاد أئمة الجور وزُمَر أهل النصب في التضييق على
المؤمنين في زيارتهم لمولاهم ومقتداهم سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين بن عليٍ
(عليه السلام)، إلا أن هذه الشعيرة المباركة تزداد رسوخًا في وجدان المؤمنين
وواقعهم يومًا بعد يوم، لا يثنيهم عن ذلك بذل أكُفٍ وأيدٍ ونفوس، يتناقلون هذا
العهد ويحافظون عليه جيلاً بعد جيل، ﴿ ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب ﴾
(1).
ومع هذا الثبات الأكيد على هذا العهد الإلهي العظيم إلا أنّ
هنالك أسئلةً قد ترد على أذهان المؤمنين وألسنتهم عند تفكُّرهم أو بحثهم الجاد،
وقد ترد على ألسنة غيرهم؛ لأغراض معرفية صِرفة، أو للسعي في إضعاف عزيمة المؤمنين
وهمتهم في هذه العبادة العظيمة، ومهما يكن فإن للحديث حول هذه الأسئلة ومعالجتها
رجحانًا على كل تقدير، وإن كان هذا الرجحان مع وجود الغرض السيء أشد وأكثر وضوحًا،
فلا بأس بالحديث حول بعضها مِمَّا يرتبط بزيارته (عليه السلام) في أربعينه:
أشهر ما يُذكَر على المنابر وعلى ألسنة المؤمنين عند
الحديث حول زيارة الحسين (عليه السلام في الأربعين هو رواية الإمام الحسن العسكري
(عليه السلام)، والمُراد بها هو ما رواه المفيد في مزاره(2)
والطوسي في تهذيبه(3)
ومصباحه(4)،
والفتال النيسابوري في روضة الواعظين(5)،
وابن المشهدي في مزاره(6)،
وغيرهم في غيرها، حيث رووا عن أبي محمدٍ الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) أنه
قال: (علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختُّم في
اليمين، وتعفير الجبين، والجهر بـ﴿ بسم
الله الرحمن الرحيـم ﴾)(7).
أولاً:
علويّة رواية العسكري
يقول بعضهم أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) قام باستلال رواية
العسكري (عليه السلام) من كتاب الهداية الكبرى، وهي في الأصل تذكر عشر علامات، إلا
أنه لمّا كانت العلامات الخمس هذه عليها شواهدٌ ومؤيدات من رواياتنا الأخرى بخلاف
الخمس الأخرى، رواها مع الاقتصار على هذه الخمس علامات دون تلك، مع حذفه إسنادَها.
ويتبيّن وجه الإشكال في هذه الدعوى مع الالتفات إلى أن مصنّف الهداية الكبرى
الحسين بن حمدان الخصيبي ليس إماميًا –على
المشهور-، بل من العلويين الغلاة، وأخذها عنه موهنٌ لها من هذه الجهة.
لكن الظاهر أن هذه الدعوى من الاشتباه الظاهر؛ إذ أقدم
مصدرٍ إماميٍ رواها بين أيدينا ليس مصباح المتهجد، بل مزار الشيخ المفيد (رحمه
الله) كما تقدّمت الإشارة.
ولإتمام كشف الاشتباه لا بأس بنقل نص الرواية المعنية، قال
الحسين بن حمدان الخصيبي: "عن عيسى بن مهدي الجوهري، قال: خرجت أنا والحسن بن
مسعود والحسين بن إبراهيم وعتاب وطالب ابنا حاتم ومحمد بن سعيد وأحمد بن الخصيب
وأحمد بن جنان إلى سامرا" إلى أن قال: "قال –أي الإمام العسكري (عليه السلام)-: إن
الله (عزّ وجل) أوحى إلى جدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): إني قد خصصتك
وعليًا وحججي منه ليوم القيامة وشيعتكم بعشر خصال: صلاة الخميس، والتختم باليمين،
وتعفير الجبين، والأذان والإقامة مثنى، وحي على خير العمل، والجهر في (بـسم الله
الرحمن الرحيم)، والآيتين، والقنوت، وصلاة العصر والشمس بيضاء نقية، وصلاة الفجر
مغلسة، واختضاب الرأس واللحية، والوشمة... "(8).
ومِمَّا يُلاحَظ على هذا النص احتواؤه على خصلة (حي على
خير العمل)، وهي مِمَّا لم يرد في رواية العسكري (عليه السلام)، مع أن احتفافها
بالمؤيدات الخارجية غنيٌ عن التوضيح، بالإضافة إلى خلوّ النص عن (زيارة الأربعين)،
وهو الأهم.
ثانيًا:
إبهام "زيارة الأربعين"
ويُقال أيضًا أنّ المراد من لفظ "زيارة
الأربعين" زيارة أربعين مؤمنًا أو أنه مُبهَمٌ غير مُتَّضح إلا أنّ هذا غير
تام؛ إذ "الـ" في "الأربعين" عهديةٌ، ولا معهود في نفس
الرواية، ولم يُعثَر –مع
التتبع- على عهدٍ أو قرينةٍ تُشير لعهدٍ يرتبط بزيارة أربعين مؤمنًا، ومن جهةٍ
أخرى فإنّ لنا قرائن دالّة على أن المعهود هو زيارة الحسين (عليه السلام) يوم
الأربعين، وهي:
1- يقول أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت440هـ) –وهو من
العامة- في كتابه الآثار الباقية: "وفي العشرين رُدَّ رأس الحسين إلى جثَّته
حتى دُفِنَ مع جُثَّته، وفيه زيارة الأربعين، وهم [حرمه] بعد انصرافهم من الشأم"(9)،
وأقل ما يمكن استفادته من هذه العبارة أن زيارة زيارة حرم الحسين (عليه السلام)
لقبره في كربلاء عند العشرين من صفر هي المُتَعاهَد عليها بينهم بـ
"زيارة الأربعين"، ولو اقتصرنا على ذلك لكفانا؛ لوضوح أن المراد من
المؤمن إزاء العلامات المذكورة في الرواية هو أداؤها.
2- روى الشيخ الطوسي بسنده عن صفوان بن مهران، أنه قال:
"قال لي مولاي الصادق (صلوات الله عليه): في زيارة الأربعين، تزور عند ارتفاع
النهار... "(10)،
ثم حكى نصّ زيارته (عليه السلام)، وسيأتيك الحديث مفصَّلاً في سندها ووجوه
اعتباره.
3- تبادر المُحدِّثين الأقرب لعصر النص
لزيارة الحسين في العشرين من صفر دون سواها من الاحتمالات، من الشيخ المفيد للشيخ
الطوسي للفتّال النيسابوري لابن المشهدي...
إلخ، بل لم يورِدها أحدٌ من العلماء والمُحدِّثين لا قديمًا ولا حديثًا
إلا في سياق زيارة الحسين في الأربعين وسياق ذكر العلامات الأربع الأخرى في
الرواية، ولم يُنقل ذكرٌ لهذا الاحتمال إلا على ألسنة بعض أهل عصرنا.
ثالثًا:
يُتم الدليل
ويظنّ بعض المؤمنين أنه لا دليل للزيارة إلا رواية
العسكري (عليه السلام)، إلا أن هذا الظن –هو الآخر- حصيلة اشتباهٍ
ظاهٍر ينكشف بمراجعة المصادر في هذا الباب، فقد وردت:
1/ رواية
المفضل بن عمر
روى محمد بن الحسن القمي -من مصنفي القرن السابع أو ما
بعده- في كتابه العقد النضيد مرسلاً عن مفضل بن عمر أنه قال: "كان الإمام
جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) جالسًا وطعامٌ بين يديه" إلى أن قال:
"فقال (عليه السلام): يُعرَف شيعتنا بخصالٍ شتّى. فقلتُ: جُعِلتُ فداك، بماذا
يُعرَفون؟ قال: بالسخاء والبذل للإخوان، ومعاونتهم في العسر واليسر، وبصلاة الإحدى
والخمسين، والجهر بـ﴿ بسم
الله الرحمـن الرحيم ﴾،
والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، وزيارة الأربعين... "(11).
ذكرت الرواية عدة خصال، ومنها زيارة الأربعين، نعم عدم
معرفة المصنّف بشكلٍ كافٍ قد تكون مؤثرةً على بعض المباني لو انحصر الدليل بها،
إلا أنه غير حاصل.
2/ زيارة
جابر
قال السيد ابن طاووس (رحمه الله) في مصباح الزائر بعدما
أورد رواية العسكري (عليه السلام): "وقال عطا: كنتُ مع جابر بن عبدالله يوم
العشرين من صفر، فلمّا وصلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها ولبس قميصًا كان معه
طاهرًا... "، وساق الرواية شارحًا زيارة جابر (رضوان الله عليه)(12)، ومثل هذه
الرواية موردٌ للإتيان برجاء المطلوبية وإن لم تكن مسندةً لمعصومٍ؛ لكون جابر من
الأصحاب المرضيّين الآخذين عن أهل العصمة مع كون احتمال زيارته بعنوان "زيارة
الأربعين" الخاص قائمًا، وهذا الاحتمال مِمَّا قد يُستَظهَر من تصنيف ابن
طاووس للرواية، لا سيّما مع تعقيبه الرواية بقوله: "زيارةٌ
أخرى للحسين صلوات الله عليه في اليوم المُشار إليه"(13)
وذكر الرواية اللاحقة الذكر.
إلا أنّ الإنصاف يقتضي أن يُقال
إن مجال المناقشة في حجم هذا الاحتمال واسعٌ.
3/ رواية
صفوان بن مهران
المفيد في مزاره الكبير(14)
–الذي
صنّفه لبيان ما ينبغي أن يُعمَل-(15)
والطوسي في تهذيبه(16)
ومصباحه(17)
وابن المشهدي في مزاره(18) وغيرهم في
غيرها ما صورته –واللفظ
للمصباح-: أخبرنا جماعةٌ، عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدَّثنا محمد
بن علي بن معمَّر، قال: حدَّثني أبو الحسن علي بن محمد بن مسعدة والحسن بن علي بن
فضَّال، عن سعدان بن مسلم، عن صفوان بن مهران، قال: قال لي مولاي الصادق (صلوات
الله عليه): في زيارة الأربعين، تزور عند ارتفاع النهار وتقول: السلام على وليّ
الله وحبيبه، السلام على خليل الله ونجيبه... .
سند الرواية
ورغم أنه يكفي لإثبات الاستحباب
عند القائلين بقاعدة التسامح بأدلة السنن ورود الرواية ولو لم يكن سندها معتبرًا،
ويكفي ورودها أيضًا للإتيان بها رجاء مطلوبيتها عند القائلين بقاعدة الإتيان برجاء
المطلوبية، وبالتالي يكون الإتيان بها راجحًا يُرغَب فيه، إلا أن إيفاء المقام حقه
يقتضي الحديث عن سند هذه الرواية واعتباره.
وقد وقع الكلام في موارد:
أولها: "أخبرنا جماعة"
إذ طُعِنَ في السند بجهالة هذه
الجماعة، وهذا يُحيلنا إلى كلامهم حول عدة الشيخ الطوسي عن التلعكبري.
مشايخ إجازة
وعلى تقدير جهالتهم وتعذُّر
الوصول إليهم قال المحقّق البحراني (الشيخ سليمان الماحوزي) (رحمه
الله) ما نصُّه: "قد تكلّمنا في هذه العدة فيما سبق، وقلنا أنها غير مشخَّصة،
لكنهم من مشايخ الإجازات، فلا يقدح جهالتهم"(19)،
وقد التزم الشيخ وعدةٌ من الرجاليّين وثاقة مشايخ الإجازات، بل اعتبرهم في أعلى
درجات الوثاقة، قال (رحمه الله) عند حديثه
عن أحد مشايخ الإجازة: "وذكرنا أنه من مشايخ الإجازات، والظاهر أنهم في أعلى
طبقات الجلالة والوثاقة"(20).
ومِمَّن ذهب لوثاقة مشايخ
الإجازة من رجاليّينا أيضًا الشهيد الثاني في الرعاية(21)، وابنه صاحب المعالم في المنتقى(22)، والبهبهاني في فوائده(23)، والمرداماد في رواشحه(24) (رحمهم الله)، وغيرهم.
وقد يُشكِل مستشكل بأن هذه
الجماعة مجهولة، فلا يكفي كونهم مشايخ إجازة بناءً على تصريح بعض متبنّي أمارية
المشيخة على الوثاقة بأن هذه الأمارة مقيدةٌ بما إذا كان شيخ الإجازة مِمَّن يكثر
الاعتماد عليه، ويُجاب على ذلك بأن كثرة اعتماد الشيخ على عدته عن التلعكبري غنيةٌ
عن البيان لمن طالع طرقه (رحمه الله) في الفهرست.
هذا وقد ذهب السيد حسن الصدر
إلى أن شيخوخة الإجازة وإن لم تُفِد الوثاقة، إلا أنها تفيد المدح، فيُعَد الحديث
معها في الحسن لا في الصحيح، قال (رحمه الله): "الأظهر عندي عدُّ كَون الرجل
من مشايخ الإجازة في المدح دون التوثيق؛ فإنّ كون الرجل من مشايخ الإجازة لا يدل
على الوثاقة بنفسه، ولا ظهور له في ذلك إلا أن يكون ممّا استفاض النقل بالاعتناء
بشأنه وتعظيمه... "(25).
زوال الإبهام
هذا على فرض التسليم بجهالتهم
وتعذّر التعرُّف على شخوصهم، إلا أن ذلك غير مُسَلَّم؛ إذ صرّح الشيخ بأسمائهم –أو أسماء بعضهم- في رجاله عند حديثه عن البزوفري، قال
(رحمه الله): "له كتبٌ ذكرناها في الفهرست، روى عنه التلعكبري، وأخبرنا عنه
جماعةٌ، منهم: محمد بن محمد بن النعمان، الحسين بن عبيد الله، وأحمد بن
عبدون"(26).
ولعدم تعذّر معرفتهم عقّب
المحقّق البحراني قوله الذي أسلفتُ نقله بقوله: "مع أن الذي يُستفاد من
التتبُّع أن الحسين بن عبيد الله الغضائري -شيخ شيوخ الأصحاب- أحد هذه العدة (..)،
وكذا يُستفادُ من التتبع أيضًا أن الشيخ أبا عبدالله المفيد من جملة هذه العدة،
وربما يُدَّعى أنه صريحٌ من كلام الشيخ في التهذيب.
قال فيه في باب حكم الحيض
والاستحاضة والنفاس هكذا: أخبرني جماعةٌ، عن أبي محمد هارون بن موسى، عن أحمد بن
محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن بن فضال.
وأخبرني أحمد بن عبدون، عن علي
بن محمد بن الزبير، عن علي بن الحسن بن فضّال، ثم ساق السند إلى آخره وذكر المتن، ثم
أورد بعد ذلك خبرَين بهذين الإسنادَين إلى علي بن الحسن، عن رجاله المذكورين في
الكتاب المذكور، ثم أورد خبرَين عن علي بن الحسن، ثم قال: "والذي يكشف عن هذا
ما أخبرني به الشيخ وأحمد بن عبدون بالإسناد المتقدّم عن علي بن الحسن بن فضّال،
ثم ساق الخبر ومتنه.
وظاهر الحال يقتضي أن مراد
الشيخ (رحمه الله) بالسند المتقدِّم: الشيخ المفيد، عن أبي محمد هارون بن موسى، عن
أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن. وهذا يُعطي صريحًا أنه أحد العدة...
"(27).
وبذلك فإن الإشكال من جهة عدة
الشيخ عن التلعكبري (رحمهما الله) لا يتمّ.
وثانيها: "محمد بن علي بن
معمَّر"
وقد أُشكِلَ بعدم التنصيص على وثاقته صريحًا، ويمكن أن
يُتجاوز بأحد طريقَين:
من
مشايخ التلعكبري
قال الشيخ الطوسي في رجاله: "محمد بن علي بن معمر الكوفي، يُكنَّى
أبا الحسين الصبيحي، سمع منه التلعكبري سنة تسعٍ وعشرين وثلاثمائة، وله منه
إجازة"(28)،
فهو إذًا من مشايخ الإجازة للتلعكبري (رحمهما الله)، ومن هنا يجري ما جرى في غيره
من أمارة مشيخة الإجازة على التوثيق أو المدح، ومن هنا قال المامقاني (رحمه الله)
-بعد نقل كلام الطوسي-: "وأقل مرتبة شيخوخة الإجازة الحُسن"(29).
توثيق
المعاريف
وقد يُذكَر في هذا السياق ما تبنّاه بعض العلماء كالميرزا
جواد التبريزي (رحمه الله)(30)
من أنّ معروفية الراوي الذي لم يُنقَل في حقه توثيقٌ مع عدم ورود القدح في حقه تكون
كاشفةً عن وثاقته، وهذا مِمَّا ينطبق على ابن معمَّر.
كتب بني فضّال
هذا ويمكن تجاوز عدم التنصيص
على وثاقة ابن معمّر بنحوَين آخرَين يُتجاوَز فيهما شأن توثيقه؛ إذ أن ابن معمر
إنما وقع في طريق الشيخ للحسن بن علي بن فضّال، وللأخير كتاب الزيارات كما نصّ على
ذلك النجاشي(31).
فلو كان للشيخ طريقٌ آخر غير
هذا لمصنّفات ابن فضّال –يكون سالمًا
من الإشكال- لانحلّ الإشكال بالتعويض، وقد ذكر في الفهرست طريقَين صحيحَين، وهما:
"أخبرنا بكتبه ورواياته عدةٌ من أصحابنا، عن محمد بن علي بن الحسين، عن محمد
بن الحسن، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله والحميري، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين،
عن الحسن بن علي بن فضال.
وأخبرنا بن أبي جيّد، عن محمد
بن الحسن بن الوليد، عن الصفار، عن محمد بن عبدالجبار، عن الحسن بن علي بن
فضّال"(32). وقد ذكر السيد السيستاني (حفظه الله) نظير ذلك في حقّ
طريق الشيخ (رحمه الله) لعلي بن الحسن بن فضال كما حُكيَ عنه(33).
كما أنه يُمكن أن يُقال أيضًا
أن الحاجة إلى السند في اعتبار الكتب إنما هي في الكتب غير المشهورة التي يكثر
تداول نسخها، وأما في الكتب المشهورة فإن شهرتها تُغني عن ذلك، وكتب بني فضّال
منها؛ فقد روى الشيخ في الغيبة بسنده عن الحسين بن رَوح (رضوان الله عليه) أنه
أجاب عند سؤاله عن كتب الشلمغاني: "أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي
(صلوات الله عليهما) وقد سئل عن كتب بني فضّال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا
منها ملاء؟... "(34). وقد حُكيَ هذا الوجه أيضًا عن السيد السيستاني (حفظه
الله) عند حديثه عن علي بن الحسن(35).
وثالثها: "سعدان بن مسلم"
إذ لم يَرِد فيه هو الآخر
تنصيصٌ بالوثاقة، لكن هذا يُتَجاوَز بأحد وجوه، ومنها:
وروده في أسانيد تفسير القمي
يذهب جمعٌ من العلماء لوثاقة
الرجال الواردين في أسانيد تفسير القمي؛ استنادًا على ما قاله في مقدمة الكتاب:
"ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض
الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ولا يُقبَل عملٌ إلا بهم"(36)،
ومن هؤلاء العلماء السيد الخوئي (رحمه الله)(37)
والشيخ الداوري (حفظه الله)، إلا أن الشيخ يرى أن الكتاب ينقسم لقسمٍ يُتيقّن
نسبته للقمي وآخر لم يثبت فيه ذلك، فيرى وثاقة الواردين في القسم الأول دون الثاني(38).
وقد ورد سعدان بن مسلم في
سندَين كلاهما من القسم الأول:
فالأول ما جاء في سورة الفاتحة،
قال: "وعنه، عن سعدان بن مسلم، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: سألته عن
الصراط... "(39).
والثاني في سورة البقرة، قال:
"حدثني أبي، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير،
عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله (تعالى) : ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾ ... "(40).
وقد أشار للمورد الأول السيد
الخوئي (رحمه الله) في معجمه(41)، ومن هنا صرَّح الداوري (حفظه الله) باسمه عند تعداد
أسماء رواة (القسم الأول)(42).
وروده في أسانيد كامل الزيارات
يذهب جمعٌ من العلماء لوثاقة
الرجال الواردين في أسانيد كامل الزيارات؛ استنادًا على ما قاله في مقدمة كتابه:
"وقد علمنا بأنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، لكن
ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا (رحمهم الله برحمته)، ولا أخرجت فيه حديثًا
روي عن الشُذّاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية
المشهورين بالحديث والعلم"(43)، ومِمَّن التزم بذلك السيد محمد سعيد الحكيم (حفظه
الله)(44) والسييد الخوئي (رحمه الله) إلا أنّ السيد الخوئي قد
عدل عنه بعد مناقشاتٍ مع الشيخ الداوري (حفظه الله)(45).
وقد ورد ذكره في
أسانيد كامل الزيارات في عدة موارد، منها:
الحديث الخامس من باب دعاء الملائكة لزوار قبر الحسين
عليه السلام (41)، قال: "حدثني الحسين بن محمد بن عامر، عن أحمد بن إسحاق بن
سعد، عن سعدان بن مسلم، عن عمر بن أبان، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله (عليه
السلام)، قال: كأني بالقائم (عليه السلام) على نجف الكوفة... "(46).
والحديث التاسع عشر من باب فضل زيارة المؤمنين وكيف
يُزارون (105)، قال: "حدثني محمد بن الحسن بن الوليد، عمّن ذكره، عن أحمد بن
أبي عبدالله البرقي، عن أبيه، عن سعدان بن مسلم، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير،
عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: يخرج أحدكم إلى القبور فيسلِّم... "(47).
توثيق
المعاريف
وقد يُذكَر في هذا السياق ما أسلفنا ذكره –عند الحديث
عن ابن معمّر- مِمَّا تبنّاه بعض العلماء -ومنهم الميرزا التبريزي (رحمه الله)- من
توثيقٍ للمعاريف الذي لا قدح فيهم، ومعروفية سعدان بن مسلم وعدم ورود القدح فيه
مِمَّا ينكشفان بأيسر تتبعٍ لمصادر الحديث والرجال.
رواية ابن أبي عمير بوجهَين
ومِمَّا يُذكَر في المقام أيضًا
رواية محمد بن أبي عُمَير وغيره –كصفوان- عنه؛ إذ قد صحّت روايته عنه
في الكافي(48).
والوجه الأول في ذلك ما يُقال من أمارية رواية أصحاب الإجماع عن راوٍ على توثيقه كما ذهب له
الشهيد الأول(49) والسيد بحر العلوم(50).
وأما الثاني، فهو أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) قد قال في
العدة: "سوّت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عُمَير، وصفوان بن يحيى،
وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات الذين عُرِفوا بأنهم لا يروون ولا
يُرسِلون إلا عمَّن يوثَق به"(51)،
ولازم ذلك أنّ مَن يروي عنه هؤلاء ثقةٌ وإن لم يُنَصّ عليه بخصوصه، وقد ذهب لذلك الشهيد الأول(52) والبهبهاني(53) والداوري(54) وغيرهم.
مجموعة قرائن
هذا وقد ذكر الوحيد البهبهاني
(رحمه الله) في سياق توثيقه مجموعة قرائن، قال: "في رواية هؤلاء الأعاظم عنه
شهادةٌ على كونه ثقةً، سيّما وفيهم صفوان، ويشهد عليه أيضًا رواية ابن أبي عُمَير
عنه، وأنّ القميين رووا روايته سيّما أحمد بن محمد بن عيسى وابن الوليد منهم، وأن
الأصحاب حتى المتأخرين ربما يرجحون روايته على رواية الثقة الجليل، بل وعلى
رواياتهم، منه في تزويج الباكرة الرشيدة بغير إذن أبيها، فتدبّر.
وأن الأعاظم غير المذكورين
أيضًا رووا عنه مثل الحسن بن محبوب، ومحمد بن علي بن محبوب، ويونس بن عبدالرحمن،
وغيرهم.
ويؤيّده أنه كثير الرواية،
ورواياته مقبولةٌ مُفتىً بها، وكتابه يرويه جماعةٌ، وأنه صاحب أصل، وأنّ للصدوق
طريقًا إليه، وهو في طريقه إلى جهم بن جهم، إلى غير ذلك مِمَّا مرَّ في الفوائد...
"(55). وقد عقّب الشيخ المامقاني (رحمه الله) على كلام الوحيد
قائلاً: "وما ذكره موجّه متين، فإن من تأمَّل في ذلك كلّه وأنصف، حصل له من
مجموع ما ذكروه الاطمئنان بوثاقة الرجل، وحيث إن كونه إماميًا لا شبهة فيه، يكون
حديثه من الصحيح، وإن أبيت إلا الجمود على لفظ (ثقة)، فسمِّه حسنًا معتمدًا
كالصحيح"(56).
إلحاق
المشي له (عليه السلام) ليس مجرّد تقليدٍ شعبي
وفي سياقٍ متصل، يدور على بعض
الألسنة أن المشي للحسين (عليه السلام) مُجرَّد فلكلور وتقليد شعبي درج عليه أهل العراق
وتابعهم عليه غيرهم من المؤمنين ولا نصّ شرعيّ على ذلك، وهذه الدعوى لا تصدر إلا
مع غفلةِ صاحبها عن النصوص الواردة في المقام؛ إذ وردت عدة روايات يُستفاد منها في
هذا المقام، منها سبع رواياتٍ وردت عن ستةٍ من أصحاب إمامنا الصادق عنه (عليه
السلام)، نذكر منها على سبيل التمثيل: ما رواه ابن قولويه بسنده عن أبي الصامت،
قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) وهو يقول: مَن أتى قبر الحسين (عليه السلام)
ماشيًا، كتب الله له بكل خطوةٍ ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئةٍ ورفع له ألف درجة(57).
بل لا غرابة في استفادة بعض العلماء
رجحان المشي على الركوب في عموم العبادات اعتمادًا على عموم لسان صحيحة عبدالله بن
سنان؛ إذ روى فيها أنّ أبا عبدالله (عليه السلام)، قال: "ما عُبِدَ الله
بشيءٍ أشدّ من المشي ولا أفضل"(58).
نعم، قد يُقال بترجّح الركوب
على المشي في بعض الحالات نظير ما ورد في الحج، ومنه ما رواه الصدوق –بسندٍ صحيحٍ- عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) "أنه
سأله عن المشي أفضل أو الركوب؟ فقال: إذا كان الرجل موسرًِا، فمشى ليكون أقلّ
لنفقته، فالركوب أفضل"(59).
ليست لمنع القياس على الحج؟
وهنا ردّ أحدهم دلالة تلك
الروايات وادَّعى أنَّ المشي والركوب سيّان اعتمادًا على روايةٍ رواها الشيخ (رحمه
الله) في التهذيب، ونصُّها –مع حذفي
الإسنادَ اختصارًا-: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وقد ذكر أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال ابن ماردٍ لأبي عبدالله (عليه
السلام): ما لمن زار جدّك أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقال: يا بن مارد، مَن زار
جدّي عارفًا بحقه، كتب الله له بكل خطوةٍ حجةً مقبولة وعمرةً مبرورة، والله يا بن
مارد، ما يُطعِم الله النار قدمًا اغبرّت في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ماشيًا
كان أو راكبًا، يا بن مارد اكتب هذا الحديث بماء الذهب"(60)، وأردفها بدعوى أن روايات المشي
إلى الحسين (عليه السلام) قد جاءت كي لا يمتنع المؤمنون عن الزيارة إذا لم تكن
معهم راحلةٌ، معتمدين على قياس ذلك على الحجّ، حيث لا يجب الحجّ على غير المستطيع.
أما رواية التهذيب، فينكشف
للمتأمّل لهم عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة أصلاً، ليست في مقام إثبات
التساوي بين فضل المشي والركوب، إنما أثبتت فضيلةً مشتركةً بينهما، لا غير، ومن
الواضح أن اشتراكهما في خصلةٍ أو فضيلةٍ ما لا يساوق دعوى تساويهما في الفضل، ولا
يساعد نصُّها على حملها على أكثر من ذلك.
وأمّا دعوى أن هذه الروايات
إنما جاءت كي لا يمتنع المؤمنون مع عدم توفر الراحلة قياسًا على الحج، فإنّها دعوى
أغرب من أختها؛ إذ ما يتوقّف على الراحلة هو وجوب الحج لا استحبابه، فلا يتوقّف
الحج المستحبّ على الراحلة، ولا حديث –عند
المشهور- عن وجوب الزيارة كي يتوهّم توقفها على الراحلة، فلو افترضنا قياسها
بالحج، لقيل ذلك في صورة الوجوب، وهذا يُتَصوَّر مع التزام مَن يرى ذلك وجوب
الزيارة لا دون ذلك.
ثم إنَّا حتى وإن تجاوزنا ما
سلف، فما وجه ورود نظائر لهذه الروايات لها في شأن الحج، وعدم انحصارها –بذلك- في مقام زيارة الحسين (عليه السلام)؟ فمنها:
1/ ما رواه الصدوق (رحمه الله)
عنهم (عليهم السلام): "ما تقرّب عبدٌ إلى الله (عزّ وجل) بشيءٍ أحبّ إليه من
المشي إلى بيته الحرام على القدمَين، وإن الحجة الواحدة تعدل سبعين حجة، ومن مشى
عن جمله، كتب الله له ثواب ما بين مشيه وركوبه... "(61).
2/ ما رواه الشيخ (رحمه الله)
بسنده الصحيح عن الحلبي، قال: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن فضل المشي؟
فقال (عليه السلام): الحسن بن علي قاسَم ربّه ثلاث مرات حتى نعلاً ونعلاً، وثوبًا
وثوبًا، ودينارًا ودينارً، وحجّ عشرين حجّة ماشيًا على قدمَيه"(62).
3/ وما رواه الشيخ (رحمه الله)
بسنده الموثّق عن هشام بن سالم، قال: "دخلنا على على أبي عبدالله (عليه
السلام) –أنا وعنبسة بن مصعب وبضعة عشر رجلاً من أصحابنا- فقلنا:
جعلنا فداك، أيهما أفضل المشي أو الركوب؟ فقال: ما عُبِدَ الله بشيءٍ أفضل من
المشي. فقلنا: أيهما أفضل، نركب إلى مكة فنُعَجِّل فنقيم بها إلى أن يقدم الماشي؟
أو نمشي؟ فقال: الركوب أفضل"(63).
(8) وأتقصّد هنا تخريج الرواية من هذه الطبعات الثلاث بعينها؛
للكلام الدائر حول نسخ الكتاب. الهداية الكبرى: ب13 الإمام العسكري (عليه السلام)،
ص259 [ط1 دار لأجل المعرفة]، وب10 الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ح15، ص598
[ط1 ت الشيخ شوقي حداد]، ب13 الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ص345 [ط مؤسسة البلاغ].
تعليقات
إرسال تعليق