التخطي إلى المحتوى الرئيسي

(دعاء التوسل) في تراثنا


مقال: (دعاء التوسل) في تراثنا


علي يعقوب - مجلة رسالة القلم (57)

يأتي هذا المقال لمعالجة بعض الإثارات والطعونات المرتبطة بـ(دعاء التوسل) المعروف وبثقافة التوسل والاستغاثة بالمعصومين (عليهم السلام)، ومِمَّا اشتمل عليه توثيق وجود هذا النمط من الأدعية في تراث الشيعة الإمامية من خلال ملاحظة أقدم المصادر الحديثية وأهمِّها.

ومحاور المقال هي:
▫ خطاب الولي ومحاذيره:
أولاً: الإشكال العقدي
ثانيًا: الإشكال الفقهي
▫ تسمية (التوسل) دعاءً
▫ هل هو اختلاقٌ صفوي؟
▫ هل أنشأه الخاجة الطوسي
▫ نمط الدعاء في كتب المتقدِّمين
▫ تُحفَتان

 للقراءة أو التحميل بهيئة المجلة:

 للقراءة أو التحميل بهيئة المجلة:


> دعاء التوسل < في تراثنا

للمنتمي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) سمات وسلوك يُعرَف بها حتى صارت تُشير إلى تشيعه بين الناس، ومن ذلك توسُّله بأولياء الله (عزَّ وجلَّ) واستغاثته بهم رغم أنه كان سلوكًا إسلاميًا لا يُحَدَّد بمذهبٍ عقديٍ أو فقهيٍ واحد، لكن آلَ الوضع في هذا الزمان إلى اختصاصها في أذهان الناس والثقافة العامة الرائجة بالشيعة وتتعدّاها في بعض المناطق للصوفية، بل إنها صارت تُهمةً يُعَيَّر بها الشيعي ويُكَفَّر.

ولم يقف ذلك -كما في العقود الماضية- عند الاتهام والافتراء والاعتداء على الشيعة بهذه الذريعة، بل تعدَّى الأمر ذلك؛ إذ بدأت تدخل الشبهة بذلك على بعض أبناء مجتمعنا من شبابٍ هنا وهناك.

ولو نظرنا لذلك وأضفنا له تساؤلات أو أسئلة تدور في بعض أوساطنا لوجدناهما دافعَين كافيَين لتقديم صورة واضحة حول التوسُّل والاستغاثة في تراثنا، ولأن أكثر ما يُثار هنا وهناك إنما ينصبُّ في العادة حول ما يكون في هيئةٍ خطابٍ مع الولي والذي يُعَدُّ >دعاء التوسُّل< المعروف من أبرز نماذجه، كان من المناسب أن يختصّ الحديث بهذا النمط و>دعاء التوسل< وما يُثار حولهما.

وقبل ذلك لا بُدَّ من الإشارة أولاً، بأنّ هنالك مصطلحان، وهما >التوسل< و>الاستغاثة<، وهناك من يجعل >الاستغاثة< نمطًا من أنماط >التوسُّل<، فالعلاقة بينهما إذًا عمومٌ وخصوصٌ مطلق، وهنالك من لا يرى >الاستغاثة< نمطًا من أنماط >التوسُّل<، بل شيءٌ آخر، فيراهما على إثر ذلك متباينان.

خطاب الولي ومحاذيره

مِمَّا يُستَشكَل ويُثار حول >الاستغاثة< وبعض أنماط >التوسل< إشكالان: أحدهما فقهي وهو البدعة، والآخر عقدي وهو الشرك، وخصّ بعضهم الإشكال العقدي بعنوان >الاستغاثة< دون >التوسل<، ومن أبرز من أشكل وكتب في ما يرتبط بذلك ابن تيمية الحراني، وذلك عبر كتابَيه >قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة< و>الواسطة بين الحق والخلق<، والألباني عبر كتابه >التوسل.. أنواعه وأحكامه<.

الإشكال العقدي

ويُصَوَّر الإشكال العقدي بنحوَين:

الأول: أن الاستغاثة بغير الله مبنيةٌ على خللٍ في >توحيد الأفعال<، وبتعبيرٍ آخر إن الاستغاثة بسوى الله ناتجةٌ عن اعتقاد وجود مؤثِّرٍ آخر غير الله، في قباله، يمكن أن يُستَغاث ويُطلب منه، وهذا وإن كان لا يكثر على لسان المعدودين من أهل العلم عند العامة إلا أنه ملحوظٌ عند بعض عامتهم وعند بعض من تسرّب له هذا الإشكال من ناقدي التشيُّع وغيرهم.

وهنا تعليقان:
- أولاً: قال بعضهم: إن الإشكال في الاستغاثة هو حينما يكون المطلوب منه (المُستغاث) غائبًا أو ميتًا، وقال بعضٌ آخر: الإشكال فيها هو حينما يكون المطلوب (المستغاث له) غير مقدورٍ إلا من الله.

فأقول: إن كان المستغيث والداعي معتقدًا بما يُعَبِّر عن شركٍ أفعالي، فما المائز الذي يجعل الإشكال منحصرًا في حال غيبة المُستغاث وموته أو في حال كون المطلوب غير مقدورٍ إلا من الله؟ ما الداعي لهذا التقييد الذي ادّعاه غير واحد؟ نعم، لو لم يجرِ هذا التقييد، لم يكن لهذا التعليق محل.

- ثانيًا: نحن نُسَلِّم أصلاً بالإشكال على من يستغيث معتقدًا بأن المُستغاث ذو قدرةٍ في قبال قدرة الله، أي في عرضه، إلا أنّنا لا نحمل هذا الاعتقاد، فلا يرد علينا هذا الإشكال من أصل، إنما نرى أولياء الله وسيلتنا إليه (سبحانه)، والطلب في منتهاه منه وإن هم إلا وسائطٌ جليلةٌ عظيمةٌ إليه، وقدرتهم في طول قدرة الله، لا يملكون قدرةً مستقلّةً، وليسوا في عرضه، وحالنا كحال طالب الشفاء من البرص والعمى من نبي الله عيسى (عليه السلام).

• وأما النحو الثاني لتصوير الإشكال: فهو بتصوير أن الاستغاثة بغير الله (عزَّ وجلَّ) تخدش في >توحيد العبادة<، أي أن الدعاء عبادةٌ للمدعو، وعبادة غير الله شركٌ، والمراد من العبادة هنا بطبيعة الحال >الخضوع المطلق< أو كما عبَّر ابن منظور: "وعَبَدَ اللَّهَ يَعْبُدُه عِبادَةً ومَعْبَداً ومَعْبَدَةً: تأَلَّه له"(1)، أو كما عبّر الفاضل الشيخ علي الجزيري (حفظه الله): "إظهار العبودية... "(2) أي لمن تعتقد ألوهيته، والمراد واضحٌ وإن اختلف التعبير عنه(3).

وهذا الوجه كأخيه، لنا أن نعلِّق عليه بـ:
- أولاً: كما تقدَّم في الوجه السابق، بعضٌ يُقيّدون الإشكال بطلب غير المقدور إلا من الله، وبعضٌ بغيبة المُستغاث أو موته، وربما كان ذكر بعضهم لغيبة المستغاث وموته من باب كونهما مصداقًا لعجز المستغاث وعدم قدرته.

عمومًا، إن كان المدار على عبادة غير الله، فهي غير جائزةٍ مطلقًا، فما معنى تقييد المنع بالموت والغيبة وعدم القدرة على المطلوب إلا من الله؟ ما وجه تقييد ابن تيمية حين قال: "فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال ونصب تماثيلهم -بمعنى طلب الشفاعة منهم- هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولاً ولا أنزل به كتابًا... "(4)؟.

- وثانيًا: قد ظهر مِمَّا تقدَّم، إنَّا نُسَلِّم بالمنع من عبادة سوى الله، إلا أنّا لا نُسلِّم بأنَّ عبادة المستغاث لازمةٌ لخطابه في الطلب حين غيبته أو مماته أو كون المطلوب غير مقدورٍ عنده -كما هم يقولون-(5)، فإن وُجِدَ من يقصد العبادة لسواه -والعياذ بالله-، لَزِمَه الإشكال، لكنّا لا نقصد عبادةَ أوليائه، فلا يلزمنا الإشكال.

ومن هنا قال الفاضل الشيخ عبدالله دشتي (حفظه الله) في كتابه المرصود لمعالجة >الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني<(6): "لا شكّ بأن المسلم لو دعا غير الله دعاء عبادة عُدَّ مُشركًا، ولكن مشكلة أصحاب هذا الرأي أنهم أقاموا دعواهم بأن المسلمين وقعوا في >شرك الألوهية< -التي هي الشرك في العبادة- على فرضية اعتبار الدعاء أحد أجلى مصاديق العبادة، ثم قسَّموا الدعاء إلى دعاء عبادةٍ ودعاء مسألة بما ظاهره خروج دعاء المسألة عن عنوان العبادة، فكان عليهم بيان وجه بقائه -دعاء المسألة- تحت عنوان شرك العبادة بعد ذلك، فلم يفعلوا، بل اقتصروا على تقييده بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، ومجرّد تقييده بذلك لا يدخله في سلك العبادة"(7).

وقد أنكر على ابن تيمية قولَه هذا صاحب كتاب الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال الزنادقة، أعني ابن حجر الهيتمي، إذ قال في الجوهر المنظم: "من خرافات ابن تيمية التي لم يقلها عالمٌ قبله، وصار بها بين أهل الإسلام مُثلَة: أنه أنكر الاستغاثة والتوسُّل به (صلَّى الله عليه وسلم)، وليس كما افترى، بل التوسُّل به (صلَّى الله عليه وسلَّم) حَسَنٌ في كلِّ حالٍ، قبل خلقه وبعده، في الدنيا والآخرة" واستشهد بعد ذلك على ما ذكره،(8) وقد رماه السلفية بالتصوُّف إلا أنّا نقول: هذا لا يخرج قولهم وقول غيرهم عن الخلل، والمدار في هذا المقام على الحجة وسلامتها.

وأما علم العامة المعروف، أحد أبرز شُرّاح البخاري، أعني القسطلاني، فقد قال: "وينبغي للزائر أن يُكثِر من الدعاء والتضرُّع، والاستغاثة والتشفُّع والتوسّل به (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فجديرٌ بمن استشفع به أن يُشَفِّعهُ الله فيه"، بل وقال: "واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المُستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبِّر بلفظ الاستغاثة أو التوسّل أو التشفّع أو التجوّه أو التوجّه... "(9).


الإشكال الفقهي

إما إشكالهم الفقهي بـ>البدعة< على >التوسل<، فيكفي في ردّه وروده عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) في ما قُبِلَ عندهم من حديث، بل رواه إمام الحنابلة أحمد في مسنده -وغيره في غيره-، قال: حدّثنا روح، قال: حدَّثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يُحَدِّثُ عن عثمان بن حُنيف: أن رجلاً ضريرًا أتى النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله)، فقال: يا نبيَّ الله، ادعُ الله أن يعافيني.
قال: إن شئتَ أخَّرتُ ذلك؛ فهو أفضل لآخرتك، وإن شئتَ دعوتُ لك.
قال: لا، بل ادعُ الله لي.
فأمره أن يتوضَّأ، وأن يصلِّي ركعتَين، وأن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمَّدٍ نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجّهُ بِكَ إلى ربّي في حاجتي هذه فتُقضى، وتشفعني فيه، وتشفعه فيَّ".
قال: فكان يقولُ هذا مرارًا، ثم قال بعد: أحسب أن فيها: أن تشفعني فيه. قال: ففعل الرجل، فبرأ.
قال الأرناؤوط: "هو مكرّر سابقه، إلا أنّ شيخ أحمد في هذه الرواية هو روح... "، وقال في سابقه: "إسناده صحيحٌ، رجاله ثقات"(10).

وأما توجيهات بعضهم العليلة الصارفة للرواية عن ظاهرها -كتوجيه ابن عثيمين-، فهي أحرى بأن لا يُلتَفَت إليها؛ لتكلُّفها الذي لا يخفى على مطالعها.

وما ذكروه واستشهدوا به من آياتٍ وروايات في هذا المقام، فهي محمولةٌ على المحذورَين العقديَّين المتقدِّم ذكرهما، وقد أكَّدتُ الالتزام بالإشكال على مَن يقع سلوكه في دائرتهما فعلاً لا ادِّعاءً -على ما تمَّ بيانه-، ولا موجب لتناول الآيات والروايات واحدةً تلو الأخرى في هذا المقام؛ إذ البناء على الإيجاز ما أمكن، وللتفصيل فيها محلُّه ، فأسأل الله التوفيق له.

تسمية >التوسل< (دعاءً)

بعد التسليم بانتفاء الإشكال العقدي من شركٍ ونحوه في التوسل بالولي ومخاطبته لطلب الشفاعة أو سواها، يتساءل بعض المؤمنين: هل يَصُحُّ أن يُسَمَّى مثل >دعاء التوسُّل< المعروف >دعاءً<؟ أي وإن سُلِّم بانتفاء الإشكال العقدي عن هذه الدعاء المتعارف، هل تسميته بـ>الدعاء< تسميةٌ صحيحةٌ وفي محلِّها؟

للحكم على ذلك بالصحة أو الفساد، لا بأس بالالتفات لأمرَين:

- قول أهل اللغة: ونكتفي هنا بأحدهم، قال الفيومي في المصباح المنير: "دعوت الله أدعوه دعاءً ابتهلتُ إليه بالسؤال ورغبت في ما عنده من الخير، ودعوت زيدًا ناديته وطلبت إقباله، ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة فهو داعي الله... "(11)، وما ذكره -كما ترى- ينسجم مع توصيف أو تسمية >التوسُّل< بالدعاء، أضف لذلك ما ذكره غيره من أهل اللغة من معانٍ استُعمِلَ فيها لفظ "دعو" ومشتقاته.

- استعمال الشرع والمتشرِّعة: تسمية هذا النحو من الاستغاثة >دعاءً< مِمَّا اشتملت عليه أيضًا جملةٌ من النصوص الشريفة، ومنها ما تقدَّم ذكره من حديث مسند أحمد؛ إذ استعمل النبي (صلَّى الله عليه وآله) والضرير مشتقّات "دعو"، بل وكذا ابن حنيف (رضوان الله عليه)؛ إذ قال أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد أمر الضرير بذاك >الدعاء<، و سيأتيك نظيره في رواياتٍ لاحقةٍ أيضًا إن شاء الله.

ولطيفٌ في هذا المقام أن حتى شيخ السلفية ابن عثيمين قد استعمل لفظ >الدعاء< في غير دعاء الله، قال في >شرح ثلاثة الأصول<: "واعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألةٍ ودعاء عبادة. فدعاء المسألة هو دعاء الطلب، أي طلب الحاجات وهو عبادة إذا كان من العبد لربه؛ لأنه يتضمَّن الافتقار إلى الله (تعالى) واللجوء إليه، واعتقاد أنه قادرٌ كريم واسع الفضل والرحمة. ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة كما سبق في قول القائل: "يا فلان أطعمني"... "(12).

بل يُمكن أن يُقال أيضًا: إن وجه تسميته >دعاءً< هو الخطابات الموجّهة فيه لله (عزَّ وجل)، وإن اشتمل في أثنائه على خطابات موجهةٍ لغيره كما هو شأن دعاء الندبة مثلاً.

هل هو اختلاقٌ صفوي؟

وقد تبرز في المقام دعوى انتشرت على ألسنة البعض من ناقدي التشيُّع وتراثه مفادها أن التشيُّع قد ابتُليَ في زمن الدولة الصفوية باختلاق رواياتٍ ونسبتها كذبًا لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) بنحوٍ كان دخيلاً في خلق صورةٍ أخرى للتشيُّع مغايرة عمَّا كانت عليه، ولستُ في مقام معالجة هذه الدعوى بكاملها -أسأل الله التوفيق لذلك في قابل الأيام-، بل في مقام ردِّ ما يرتبط بمحلّ بحث المقال؛ إذ قد ادُّعي أيضًا أن دعاء التوسل المعروف -الذي رواه المجلسي (رحمه الله) وعنه رواه المحدّث القمي (رحمه الله) في المفاتيح- من مصاديق هذه الحالة، وأن التوسُّل بخطاب الأولياء غير معهودٍ قبل الدولة الصفوية.

والنظر في هذه الدعوى لجهتَين:
الأولى: كون التوسُّل بخطاب الأولياء غير معهودٍ قبل حقبة الدولة الصفوية.
الثانية: اختلاق رواية دعاء التوسُّل المعروف أثناء حقبة الدولة الصفوية.

ويكفي في ردّ ذلك ما ذكره العلامة الحلي (رحمه الله) -المولود عام 648هـ والمتوفي عام 726هـ- في كتابه منهاج الصلاح، حيث نقل تحت عنوان >في الدعاء للوسائل< دعاءً بدايته: "اللهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيك نبي الرحمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، يا أبا القاسم يا رسول الله يا إمام الرحمة يا سيدنا ومولانا إنا توجّهنا واستشفعنا وتوسّلنا بك إلى الله وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهًا عند الله اشفع لنا عند الله... "(13) إلى آخر الدعاء، وألفاظه ألفاظ دعاء التوسُّل المعروف الذي رواه المحدّث المجلسي (رحمه الله) عن نسخةٍ قديمةٍ من كتابٍ لبعض أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن الصدوق (رحمة الله عليه) وعن الكتاب الغروي العتيق(14)؛ إذ إن تأسيس الدولة الصفوية كان في بدايات القرن العاشر كما هو معروف، فضلاً عن سيطرتها على الجو العام وغير ذلك.

نعم، يمكن هنا تسجيل ملاحظتَين والتنبيه على أمرَين، وهما:

- الملاحظة الأولى: لم يُسنِد العلامة (رحمة الله عليه) الدعاء لأحد لا لمعصومٍ ولا لسواه، في حين قال العلامة المجلسي (رحمة الله عليه): "وجدت في نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا رضي الله عنهم ما هذا لفظه هذا الدعاء رواه محمد بن بابويه (رحمه الله) عن الأئمة (عليهم السلام)"(15)، ولعلَّ عدم إسناد العلامة الدعاءَ لأحدٍ ناشئٌ من أخذه من مصدرٍ لم يُحدِّد المعصوم الذي روي عنه الدعاء -مثلاً- كما هو شأن ما حكاه المجلسي إذ عبَّر المصدر الذي نقل عنه بـ"رواه محمد بن بابويه (رحمه الله) عن الأئمة (عليهم السلام)" من غير تحديدٍ للإمام المروي عنه، ولعلّ عدم إسناده راجعٌ لجهةٍ أخرى لم أطّلع عليها.

- الملاحظة الثانية: هنالك اختلافٌ يسيرٌ في بعض الألفاظ بين المذكور في منهاج الصلاح والمذكور في بحار الأنوار، إلا أن هذا الاختلاف يسيرٌ جدًا وهو أشبه باختلاف النسخ في الكتاب الواحد والرواية الواحدة بين عدة كتب، وهذا ظاهرٌ لمن له اعتيادٌ على ملاحظة فروق النسخ وطالع الفروق اليسيرة بين ما ورد في الكتابَين، فلا يضرُّ ذلك باتحاد الوارد فيهما.

- التنبيه الأول: لو افترضنا عدم حصول الاطمئنان باتحاد المذكور في الكتابَين عند أحدٍ ما، فهذا لا يضرُّ بأن دعوى عدم معهودية هذا اللون من الأدعية قبل عهد الدولة الصفوية قد انخرمت بهذا الشاهد، وستأتيك شواهد أخرى تؤكد بطلان هذه الدعوى.

- التنبيه الثاني: اختلاق الدعاء في الحقبة الصفوية تبقى -لو لم يُسَلّم الآخر بما تقدّم- مجرَّد دعوى، والدعوى لا تثبت بمجرَّد إلقائها، فلا بُدّ من برهنة الدعوى، والعلامة المجلسي (رضوان الله عليه) مِمَّن تسالمت الطائفة على عدالته وورعه وتقواه، فلا يمكن التزام الكذب في حقه إلا بمخالفة هذا التسالم.

هل أنشأه الخاجة الطوسي؟

مِمَّا طرق السمع من بعض المؤمنين أن دعاء التوسل المعروف ليس مِمَّا أُثِرَ عن المعصومين، بل أنشأه الخاجة الطوسي (رحمه الله).

وللحكم على هذه الدعوى، من النافع المقارنة بين الدعاء المنسوب للخاجة (رحمة الله عليه) وبين >دعاء التوسل< المعروف، لكن قبل المقارنة، لا بأس بالتنبيه على أمرٍ يساهم في دفع ما ذُكر أيضًا، وهو ما تقدّم من أن العلامة المجلسي (رحمة الله عليه) قد قال عند نقله الدعاء: "وجدت في نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا (رضي الله عنهم) ما هذا لفظه: هذا الدعاء رواه محمد بن بابويه (رحمه الله) عن الأئمة (عليهم السلام)... "(16)، فمن نقل عنه المجلسي (رحمه الله) من أصحابنا (رضوان الله عليهم)(17) يُصرِّح بأن الصدوق (عليه الرحمة) قد رواه عن الأئمة (عليهم السلام).

ولو غضضنا النظر عن ذلك، فمع المراجعة وملاحظة الدعائين والفروق بينهما من الصعب أن لا نجزم بأنهما دعاءان متغايران لا دعاءٌ واحد؛ إذ الفروق ليست من الفروق اليسيرة المتعارفة، وادِّعاء كونهما دعاءً واحدًا حينها فيه مؤنة ثقيلةٌ لا تخفى إلا لو ورد دليلٌ يُعتَدُّ به، وهو مفقودٌ في المقام، ولأذكر شاهدَين على تعدُّد الدعائين؛ لتتضح الصورة أكثر:

- فقرة التوسل بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) في دعاء الخاجة الطوسي بهذه الصورة: "اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على النبي الأمي العربي الهاشمي القرشي المكي المدني الأبطحي التهامي السيد البهي السراج المضيء الكوكب الدرّي صاحب الوقار والسكينة المدفون بالمدينة العبد المؤيد والرسول المسدد المصطفى الأمجد المحمود الأحمد حبيب إله العالمين وسيد المرسلين وخاتم النبيين وشفيع المذنبين ورحمة للعالمين أبي القاسم محمد صلّى الله عليه وآله، الصلاة والسلام عليك يا أبا القاسم يا رسول الله يا إمام الرحمة يا شفيع الأمة يا حجة الله على خلقه يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسّلنا بك إلى الله وقدمناك بين يدي حاجاتنا في الدنيا والآخرة يا وجيهًا عند الله اشفع لنا عند الله"(18) ولا اشتراك بينها وبين فقرة التوسل بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) في دعاء التوسل المعروف إلا في مقدارٍ معينٍ في آخرها.

- وفقرة أمير المؤمنين (عليه السلام) تبتدأ في دعاء الخاجة بـ"اللهم صلِّ وزد وبارك على السيد المطهّر والإمام المظفّر والشجاع الغضنفر أبي شبير وشبر قاسم طوبى وسقر الأنزع البطين الأشجع المتين الأشرف المكين العالم المبين الناصر المعين ولي الدين الوالي... "(19)، ولا اشتراك بينها وبين فقرة الأمير (عليه السلام) إلا بقدارٍ معيِّنٍ في آخرها، كما تقدَّم في فقرة النبي (صلَّى الله عليه وآله).

وعلى هذا فقِس... نعم احتمل المحدث الشيخ عباس القمي (رحمه الله) احتمالًا يحتمل الرجحان، وهو أن يكون الخاجة الطوسي (رحمه الله) قد اقتبس عبائر من دعاء التوسل المعروف فضمَّنها دعاءه، قال (رحمه الله): "وأظنُّ التوسُّل بالأئمة الاثني عشر المنسوب إلى الخواجة نصير الدين هو تركيبٌ من هذا التوسُّل ومن الصلاة على الحجج الطاهرين في خطبةٍ بليغةٍ أوردها الكفعمي في أواخر كتاب المصباح"(20).

ولربما كانت هذه الدعوى ناشئة من اشتباهٍ بين نِسبة دعاء التوسل المعروف لهم (عليهم السلام) وبين نسبة دعاء التوسل للخاجة (رضوان الله عليه) لأحدهم (صلوات الله عليهم)؛ إذ قد نقل السيد مرتضى المجتهدي السيستاني (حفظه الله) عن العلامة العراقي (رحمه الله) في كتابه >دار السلام< حكايةً موجزها أن الحجة (عجَّل الله فرجه) قد علَّم الخاجة الطوسي (رحمة الله عليه) الدعاءَ في رؤيا له(21).

والمجتهدي رغم وصفه الحكاية بأنها "مبنية على ما هو المشهور في الألسنة وما هو في بعض الكتب"(22) إلا أنه قال بعد نقلها: "هذه قضيةٌ متضمّنةٌ لصدور هذا الدعاء من الإمام المنتظر (أرواحنا فداه)، ولكن في صحة القضية ترديد كما صرّح به في >دار السلام<؛ لأن تاريخ فتح [بغداد] لا يوافق زمن فوت ابن الحاجب (..) وفي تاريخ القضية نكاتٌ تستلزم الإشكال في صحتها... "(23)، ورغم ذلك أيضًا إلا أنه أكّد على أهمية هذا الدعاء وأنه من مجربات العلامة العراقي والمقدس الأردبيلي (رحمة الله عليهما)(24).

نمط الدعاء في كتب المتقدّمين

وللتأكيد على حضور هذا اللون من الأدعية في تراثنا وفي مصادرنا المتقدمة المعتبرة والمتأخرة المعتمدة، أسرد مجموعةً من الشواهد التي تشتمل على استغاثةٍ و توسلٍ بالولي عبر خطابه:

الدعاء الأول

روى الكليني (رحمة الله عليه) بسندٍ معتبرٍ على وجه(25) عن عبدالرحمن القصير، قال: دخلتُ على أبي عبدالله (عليه السلام)، فقلتُ: جُعِلتُ فِداك إني اخترعتُ دعاءً.
قال: دعني من اختراعك، إذا نزل بك أمرٌ، فافزع إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وصلِّ ركعتين تُهديهما إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -إلى أن قال:- ثم خذ لحيتك بيدك اليسرى، وابكِ أو تباكَ، وقل: "يا محمَّد، يا رسول الله، أشكو إلى الله وإليك حاجتي، وإلى أهل بيتك الراشدين حاجتي، وبكم أتوجه إلى الله في حاجتي... (26)

ورواه الصدوق (رحمه الله) بسندٍ يماثله من جهة الاعتبار(27).

الدعاء الثاني

وروى الكليني (رحمة الله عليه) أيضًا بسندٍ معتبرٍ على وجه(28) عن الكاظم (عليه السلام)، قال -أي الراوي وهو البطائني-: قال لي: إني لموعوكٌ منذ سبعة أشهر، ولقد وعك ابني اثني عشر شهرًا وهي تضاعف علينا، أ شعرت أنها لا تأخذ في الجسد كله، وربما أخذت في أعلى الجسد ولم تأخذ في أسفله، وربما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلى الجسد كله؟
قلتُ: جُعلتُ فِداك، إن أذنتَ لي حدَّثتُكَ بحديثٍ عن أبي بصيرٍ عن جدِّك أنه كان إذا وعك استعان بالماء البارد، فيكون له ثوبان: ثوبٌ في الماء البارد، وثوبٌ على جسده يُراوح بينهما، ثم يُنادي حتى يُسمَع صوته على باب الدار: "يا فاطمة بنت محمد".
فقال (عليه السلام): صدقت... (29).

ووجهُ الشاهد بيِّنٌ؛ إذ الظاهر أن نداءه (عليه السلام) كان استشفاءً بها (صلوات الله عليها).

الدعاء الثالث

وروى ثقة الإسلام (عليه الرحمة) أيضًا بسنده عن شرحبيل الكندي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إذا أردتَ أمرًا تسأله ربّك، فتوضَّأ، وأحسِن الوضوء، ثمّ صلِّ ركعتَين، وعظِّم الله، وصلِّ على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وقل بعد التسليم: "اللهمّ إني أسألك بأنك ملك، وأنك على كل شيءٍ قدير مقتدر، وبأنك ما تشاء من أمرٍ يكون، اللهم إني أتوجّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة (صلَّى الله عليه وآله)، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجَّه بكَ إلى الله ربّك وربّي؛ ليُنجح طلبتي، اللهمّ بنبيّك أنجح لي طلبتي بمحمد" ثم سَل حاجتك(30).

ورواه عنه الطوسي (رحمه الله) في تهذيبه(31).

الدعاء الرابع

وروى أبو جعفر الكليني (رحمه الله) كذلك بسنده إلى أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، إني ذو عيالٍ وعليّ دَين، وقد اشتدّت حالي، فعلّمني دعاءً أدعو الله (عزَّ وجلَّ) به ليرزقني ما أقضي به دَيني وأستعين به على حالي.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): يا عبدالله، توضّأ وأسبِغ وضوءك، ثمّ صلِّ ركعتَين تُتِمّ الركوع والسجود، ثم قل: "يا ماجد، يا واحد، يا كريم، يا دائم، أتوجّه إليك بمحمدٍ نبيّك نبي الرحمة (صلَّى الله عليه وآله)، يا محمّد، يا رسول الله إني أتوجَّه بِكَ إلى الله ربّك وربّي وربّ كلّ شيءٍ أن تصلّي على محمدٍ وأهل بيته، وأسألك نفحةً كريمةً من نفحاتك، وفتحًا يسيرًا، ورزقًا واسعًا ألمُّ به شعثي وأقضي به دَيني، وأستعين به على عيالي(32).

ورواه عنه الشيخ (رحمه الله) في التهذيب(33)، وذكره الطبرسي (رحمه الله) في مكارم الأخلاق(34).

الدعاء الخامس

وروى المحدّث الكليني (عليه الرحمة) بسنده عن إسماعيل بن يسار، عن بعض مَن رواه، قال: قال [لي]: إذا أحزنك أمرٌ، فقل في آخر سجودك: "يا جبرئيل، يا محمد، يا محمد، يا جبرئيل، يا محمد -تكرِّر ذلك- اكفياني ما أنا فيه؛ فإنكما كافيان، واحفظاني بإذن الله؛ فإنكما حافظان"(35).

الدعاء السادس

روى السيد علي بن طاووس (رحمة الله عليه) بسندٍ معتبرٍ(36) عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الإمام الجواد (عليه السلام) أنه قال: تدعو في أول ليلةٍ من رجب بعد عشاء الآخرة بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك بأنك مليكٌ، وأنك على كل شيءٍ مقتدر، وأنّك ما تشاء من أمرٍ يكون، اللهم إني أتوجّه إليك بنبيك محمدٍ نبي الرحمة (صلواتك عليه وآله)، يا محمّد يا رسول الله إني أتوجَّه إلى الله ربّي وربّك؛ لينجح بِكَ طلبتي، اللهم بنبيّك محمدٍ وبالأئمة من أهل بيته أنجح طلبتي"، ثم تسأل حاجتك(37).

ورواه جدّه الشيخ الطوسي (رحمه الله) في المصباح(38)، وإنما قدّمت رواية ابن طاووس (عليه الرحمة)؛ لتصريحه بمأخذه دون جده.

الدعاء السابع

ذكر شيخ الطائفة (رضوان الله عليه) في مصباح المتهجّد دعاءً يُقرأ بعد الوتيرة، وفيه: "واجعلني من الذين في خلواتهم وفي آناء الليل وأطراف النهار راقبوك وعبدوك، يا محمد يا علي بكما بكما... "(39).

ورواه عنه حفيده ابن طاووس في فلاح السائل(40).

الدعاء الثامن

وذكر الشيخ (عليه الرحمة) أيضًا دعاءً يُدعى به بعد صلاة جعفر الطيار، وقد تضمّن: "واجعل لي في ذلك الخيرة ولا تردني خائبًا خاسرًا، واقلبني مفلحًا منجِحًا مستجابًا لي دعائي مغفورًا لي مرحومًا يا أرحم الراحمين، يا محمد يا أبا القاسم يا رسول الله، يا علي يا أمير المؤمنين، أنا عبدكما ومولاكما غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ، بل خاضع ذليلٌ عبدٌ مُقِر، متمسّكٌ بحبلكما، معتصمٌ من ذنوبي بولايتكما، أضرع إلى الله (تعالى) بكما وأتوسّل إلى الله بكما وأقدمكما بين يدي حوائجي إلى الله (جلّ وعزّ) واستغاثتي لي في فكاك رقبتي من النار وغفران ذنوبي وإجابة دعائي"(41).

وذكره كذلك السيد ابن طاووس (عليه الرحمة) في جمال الأسبوع(42).

الدعاء التاسع

قال ابن المشهدي (رحمه الله) في المزار الكبير: ويُستَحَبُّ أن يدعو بهذا الدعاء بعد صلاة الزيارة، فهو مرويٌ عنه (عليه السلام): اللهم عظم البلاء وبرح الخفاء، وانكشف الغطاء، وضاقت الأرض ومُنِعَت السماء، وإليك يا ربِّ المشتكى، وعليك المُعَوَّل في الشدة والرخاء.
اللهم صلِّ على محمدٍ وآله الذين فرضت علينا طاعتهم، وعرَّفتنا بذلك منزلتهم، ففرِّج عنَّا بحقِّهم فرجًا عاجلاً كلمح البصر أو هو أقرب من ذلك.
يا محمد يا علي، يا علي يا محمد، انصراني؛ فإنكما ناصراي، واكفياني؛ فإنكما كافياي، يا مولاي يا صاحب الزمان، الغوث الغوث الغوث، أدركني أدركني(43).

ورواه الشيخ الطبرسي (رحمة الله عليه) في كنوز النجاح وقال: "وهو الدعاء الذي علّمه الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) في المنام لأبي الحسن محمد بن أحمد بن أبي الليث (رحمه الله تعالى) في بلدة بغداد في مقابر قريش، وقد كان أبو الحسن قد هرب إلى مقابر قريش والتجأ إليها من خوف القتل، فنُجّي منه ببركة هذا الدعاء"(44).

الدعاء العاشر

روى ابن المشهدي (رحمة الله عليه) أيضًا ضمن زيارات أمير المؤمنين (عليه السلام) زيارةً تشتمل على دعاءٍ بعد صلاة الزيارة، وفيه: "يا أمير المؤمنين علي (صلَّى الله عليه)، يا محمد يا رسول الله، يا أمير المؤمنين يا علي، اشفعا لي إلى الله (عزَّ وجلَّ)، يا حسن، يا حسين، اشفعا لي إلى الله بقضاء حوائجي، يا سادتي، يا موالي، يا أئمتي، اشفعوا لي إلى الله تبارك اسمه بقضاء حوائجي وخلاصي من النار... "(45). وفي نفس الدعاء أيضًا ألفاظ أخرى من نفس النمط.

تلك عشرةٌ كاملة، وهنالك غيرها من الشواهد في كتبٍ متقدمةٍ ومتأخرة، ومنها: دلائل الإمامة للطبري الإمامي الصغير (رحمه الله)، مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (عليه الرحمة)، الإقبال وجمال الأسبوع للسيد ابن طاووس (رحمة الله عليه)، المصباح والبلد الأمين للشيخ الكفعمي (عليه الرحمة)... وفي ما تقدّم الكفاية إن شاء الله.

تحفتان

وربما كان من الحسن أن يُختَتَم البحث بتُحفَتَين، قد تُعَدَّان في الواقع شاهدًا إضافيًا على ما ذكرناه، إلا أنّ الثانية ليست عن المعصوم، بل عن أحد وكلائه، والأولى عن ختم خاتمٍ للإمام (عليه السلام) أهداه أحد وكلائه:

خاتم الإمام

روى الشيخ الصدوق (رحمة الله عليه) بسندٍ معتبرٍ عن إبراهيم بن مهزيار(46)، قال: قدمتُ مدينة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فبحثت عن أخبار آل أبي محمد الحسن بن عليٍ الأخير (عليهما السلام)، فلم أقع على شيءٍ منها، فرحلتُ منها إلى مكة مستبحثًا عن ذلك، فبينما أنا في الطواف إذ تراءى لي فتىً أسمر اللون، رائع الحُسن، جميل المخيلة، يطيل التوسُّم فيَّ، فعُدتُ إليه مؤمِّلاً عِرفان ما قصدتُ له، فلمّا قربت منه، سلّمتُ، فأحسن الإجابة، ثم قال: من أيّ البلاد أنت؟ قلتُ: رجلٌ من أهل العراق. قال: من أيّ العراق؟ قلتُ: من الأهواز. فقال: مرحبًا بلقائك، هل تعرف بها جعفر بن حمدان الحصيني؟ قلتُ: دُعي فأجاب. قال: رحمة الله عليه، ما كان أطول ليله وأجزل نيله، فهل تعرف إبراهيم بن مهزيار؟ قلتُ: أنا إبراهيم بن مهزيار. فعانقني مليًا، ثم قال: مرحبًا بِكَ يا أبا إسحاق، ما فعلتَ بالعلامة التي وشجت بينك وبين أبي محمدٍ (عليه السلام)؟ فقلتُ: لعلك تريد الخاتم الذي آثرني الله به من الطيّب أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)؟ فقال: ما أردتُ سواه، فأخرجتهُ إليه، فلمّا نظر إليه استعبر وقبّله، ثم قرأ كتابته، فكانت: "يا الله، يا محمد، يا علي"، ثم قال: بأبي يدًا طالما جلتَ فيها... إلى آخر الرواية التي اشتملت في ثناياها على لقائه بالحجة (عجَّل الله له الفرج)(47).

القاسم بن العلاء يعود مبصرًا

روى الشيخ الطوسي (رحمة الله عليه) بسنده المعتبر عن الصفواني (رحمه الله)، قال: رأيت القاسم بن العلاء وقد عمَّر مائة سنةٍ وسبع عشر سنة، منها ثمانون صحيح العينَين، لقي مولانا أبا الحسن وأبا محمد العسكريّين. وحُجِبَ بعد الثمانين، وردَّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة أيام  (..) وحمَّ القاسم يوم السابع من ورود الكتاب، واشتدَّت به في ذلك اليوم العلّة، واستند في فراشه إلى الحائط (..) وكان جالسًا ورداؤه مستور على وجهه في ناحية الدار، وأبو حامد في ناحيةٍ، وأبو علي بن جحدر وأنا وجماعة من أهل البلد نبكي إذ اتّكى القاسم على يديه إلى خلف، وجعل يقول: "يا محمد، يا علي، يا حسن، يا حسين، يا مواليّ، كونوا شفعائي إلى الله (عزّ وجلّ) وقالها الثانية، وقالها الثالثة، فلمّا بلغ في الثالثة "يا موسى، يا علي" تفرقعت أجفان عينيه كما يفرقع الصبيان شقائق النعمان، وانتفخت حدقته، وجعل يمسح بكمّه عينَيه، وخرج من عينيه شبيه بماء اللحم... (48).

والمراد من تفرقع أجفان العين الكناية عن تفتحها أي عودة العين مبصرةً.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.





(1) لسان العرب: ج3، ص272 [ط3 دار الفكر للطباعة والنشر – نسخة جامع الأحاديث 3،5].
(2) مفهوم العبادة: المبحث الثاني، الإطلاق العقدي للعبادة، ص101 [ط1 دار زين العابدين].
(3) وقد ناقش الشيخ (حفظه الله) في كتابه >مفهوم العبادة بين التكفيريين وباقي المسلمين< التعريفات التي ذكرها علماء الفريقَين لمفهوم العبادة نقاشًا نافعًا وافيًا.
(4) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ف في [معاني] التوسل، ص42 [ط1 رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء].
(5) قلت: "كما يقولون"؛ لأنّا نقول: إن جميع الممكنات عاجزةٌ عن كل فعلٍ ولا حول ولا قوة لها عليه إلا بالله، نعم هنالك أمورٌ خاصة لم يجعلها الله (عزَّ وجلّ) في متناول قدرةَ عموم خلقه إلا أنّا نرى أنه قد جعلها أو بعضها في متناول قدرة بعض أوليائه أو جعل دعاءهم فيها مُحقَّق الاستجابة.
(6) وقد استوفى الشيخ (حفظه الله) البحث في جوانب الخلل لدى السلفية في فهم التوحيد بنحوٍ لافت.
(7) الخلل الوهابي في فهم التوحيد القرآني: ب3، المبحث الثاني، القسم الثاني، الخلل الثاني، ص317 [ط1 مكتبة فدك].
(8) الجوهر المُنَظَّم: خاتمة، [الفائدة 13]، ص171 [ط دار الحاوي].
(9) المواهب اللدنية: ج4، المقصد العاشر: وفاته ص، ف2 زيارة قبره ص ومسجده، بحثٌ في التوسل، ص593 [ط2 المكتب الإسلامي].
(10) مسند أحمد: ج28، حديث عثمان بن حنيف، ح17241، ص480 [ط مؤسسة الرسالة].
(11) المصباح المنير: ج1، ك الدال، الدال مع العين وما يثلثهما، ص325 [ط محمد علي صبيح وأولاده].
(12) مجموع فتاوى ورسائل ابن العثيمين: ج6، شرح ثلاثة الأصول، الدعاء وأنواعه، ص52 [ط2 دار الثريا].
(13) منهاج الصلاح: ب10 في دعوات الحوائج، ف3 في الدعاء للوسائل، ص511 [ط1 مكتبة العلامة المجلسي].
(14) بحار الأنوار: ج99، ك المزار، ب10 كتاب الرقاع للحوائج... ، ذيل ح8، ص247 [ط2 دار إحياء التراث العربي-نسخة جامع الأحاديث 3،5].
(15) المصدر السابق.
(16) المصدر السابق.
(17) وقد عبَّر عن هذا المؤلّف (رحمه الله) في كتابه تحفة الزائر (فارسي) بـ"بعض الكتب المعتبرة"، حيث قال: "در بعضى از كتب معتبره نقل كرده اند از محمد بن بابويه" (تحفة الزائر: ب11 بيان زيارات جامعة واستغاثه... ، ف2 در بيان كيفيت استشفاع وتوسل... ، روايت 10، ص643 [ط2 مؤسسة الإمام الهادي عليه السلام]).
(18) مهج الدعوات: دعاء التوسل بالمعصومين للطوسي، ص425 [ط1 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات].
(19) المصدر السابق.
(20) مفاتيح الجنان: ب1 في تعقيب الصلوات ودعوات أيام الأسبوع، ف7 في الأدعية والتسبيحات المختارة، توسُّلٌ آخر... ، ص120 [ط2 مسجد جمكران المقدس].
(21) الصحيفة المباركة المهدية: ص583 [ط1 منشورات ألماس].
(22) المصدر السابق.
(23) الصحيفة المباركة المهدية: ص586 [ط1 منشورات ألماس].
(24) المصدر السابق.
(25) والوجه توثيق القندي مطلقًا أو في خصوص ما روي عنه قبل الوقف كما عليه بعض علمائنا، والمروي عنه (عبدالرحمن القصير) كذلك وُثِّق وحُسِّن من بعض علمائنا، وفي كونه "عبدالرحمن" أو "عبدالرحيم" نقاشٌ؛ إذ ذهب البعض إلى كونه "عبدالرحيم" وأن "عبدالرحمن" محرَّفة عنها.
(26) الكافي: ج6، ك الصلاة، ب95 صلاة الحوائج، ح1(5671)، ص620 [ط3 دار الحديث].
(27) من لا يحضره الفقيه: ج1، [ك الصلاة]، ب83 صلاة الحاجة، ح7(1550)، ص559 [ط5 مؤسسة النشرالإسلامي].
(28) والوجه هو توثيق علي بن أبي حمزة البطائني مطلقًا أو في ما روي عنه قبل الوقف كما عليه جملةٌ من علمائنا.
(29) الكافي: ج15، ك الروضة، ح87(14902)، ص266.
(30) الكافي: ج6، ك الصلاة، ب95 صلاة الحوائج، ح7(5677)، ص627 [ط3 دار الحديث].
(31) تهذيب الأحكام: ج3، ك الصلاة، أبواب الزيادات، ب31 من الصلوات المرغّب فيها، ح17(971)، ص346 [ط1 دار الكتب الإسلامية].
(32) الكافي: ج4، ك الدعاء، ب53 الدعاء للرزق، ح6(3367)، ص487 وج6، ك الصلاة، ب94 الصلاة في طلب الرزق، ح2(5665)، ص613[ط3 دار الحديث].
(33) تهذيب الأحكام: ج3، ك الصلاة، أبواب الزياداة، ب31 من الصلوات المرغّب فيها، ح12(966)، ص344 [ط1 دار الكتب الإسلامية].
(34) مكارم الأخلاق: ج2، ب10 في الأدعية وما يتعلق بها، ف4 في نوادر من الصلاة، صلاة في استجلاب الرزق، ح1(2337)، ص129 وصلاة الضر والفقر، ص119 [ط4 مؤسسة النشر الإسلامي].
(35) الكافي: ج4، ك الدعاء، ب55 الدعاء للكرب والهم والحزن والخوف، ح9(3387)، ص503 [ط3 دار الحديث].
(36) إذ صرّح في فلاح السائل -وهو أول كتب كتاب >المهمات والتتمات<- بأنه يختصر الطرق، وأحال على طرق جده شيخ الطائفة في الفهرست لمعرفة تمام الطريق، ولما حُكيَ عن توفُّر نسخ كتب جده بين يديه.
(37) الإقبال بالأعمال: ج3، [ج2]، ب8 في ما نذكره مِمَّا يختص بشهر رجب... ، ف6 في ما نذكره من الدعاء في أول ليلةٍ من رجب... ، ص174 [ط3 بوستان كتاب].
(38) مصباح المتهجد: رجب، العمل في أول ليلة من رجب، ص798 [ط1 مؤسسة فقه الشيعة].
(39) مصباح المتهجد: الصلاة، ص116 [ط1 مؤسسة فقه الشيعة].
(40) فلاح السائل: ف29 في صلاة الوتيرة وما نذكره من تعقيبها، ذكر صفة صلاة الوتيرة، ص459 [ط1 دار جواد الأئمة (عليه السلام)].
(41) مصباح المتهجّد: أعمال الجمعة، صلاة التسبيح، ص314 [ط1 مؤسسة فقه الشيعة].
(42) جمال الأسبوع: ف30 في ما نذكره من صلاة جعفر بن أبي طالب... ، دعاءٌ آخر بعد هذه الصلاة، ص190 [ط1 مؤسسة الآفاق].
(43) المزار الكبير: ق5 في زيارة سائر الأئمة (عليهم السلام)، ب9 الخلف الصالح صاحب الزمان، القول عند نزول السرداب، ص591 [ط1 مؤسسة النشر الإسلامي].
(44) كنوز النجاح: دعاء صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، ص112 [ط1 مجمع الإمام الحسين (عليه السلام) العلمي].
(45) المزار الكبير: ق3 في فضل الكوفة وأعمال مساجدها... ، [زيارات أمير المؤمنين]، زيارةٌ أخرى لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، ح15، ص315 [ط1 مؤسسة النشر الإسلامي].
(46) وإبراهيم بن مهزيار كذلك ثقةٌ عند جملةٍ من علمائنا؛ سلكوا في توثيقه عدة وجوه.
(47) كمال الدين: ج2، ب11 ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلّمه، ح19، ص473 [ط5 مؤسسة النشر الإسلامي].
(48) كتاب الغيبة (للطوسي): ف4، بعض ما ظهر من جهته (عليه السلام) من التوقيعات، ص310 وص313 [ط1 منشورات الرضا].

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل