مقال: دفع اتهام الهمداني
علي يعقوب - مجلة رصد العقائدية (1)
هذه معالجة لإشكاليات أثارها أحد المرجفين حول شخصية ومرويات المُحدِّث الثقة أحمد
بن زياد الهمداني، وهو من مشايخ الصدوق الذين أكثر من الترضي عليهم، بل نصَّ على
توثيقه صريحًا، وهو –أي الهمداني- مِمَّن أكثر الرواية عن المحدِّث الجليل علي بن
إبراهيم القمي (صاحب التفسير)، أما الإشكاليات، فقد جاءت في سياق التوهين والطعن
في كل ما يمكن أن يُستَنَد عليه في عَضد عقيدة الإمامة الإلهية بغرض الطعن فيها،
مع قطع النظر عن قيمته أو دوره في تشييد هذه العقيدة أو عضدها.
دفع اتهام الهمداني
توطئة
روى الصدوق (رضوان الله عليه) عن شيخه أحمد بن زياد بن جعفر الهَمَداني
بسنده –وهو معتبر- إلى إبراهيم بن محمد الهَمَداني (رضي الله عنه)، قال: قلتُ
للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، أخبرني عن زرارة، هل كان يعرف حقَّ أبيك
(عليه السلام)؟ فقال: نعم. فقُلتُ له: فَلِمَ بعث ابنه عبيدًا ليتعرَّف الخبر إلى
مَن أوصى الصادق جعفر بن محمدٍ (عليه السلام)؟ فقال: إن زرارة كان يعرف أمر أبي
(عليه السلام) ونصَّ أبيه عليه، وإنِّما بعث ابنه ليتعرَّف من أبي (عليه السلام)،
هل يجوز له أن يرفع التقيةَ في إظهار أمره ونصِّ أبيه عليه، وإنه لمَّا أبطأ عنه
ابنُه، طولِبَ بإظهار قوله في أبي (عليه السلام)، فلم يحب أن يُقدِمَ على ذلك دون
أمره، فرفع المصحفَ وقال: >اللهمَّ إن إمامي مَن أثبَتَ هذا المصحف إمامتَه من
ولد جعفر بن محمَّد (عليه السلام)<(1).
وجريًا على دأبه في الطعن أو التلويح به في كل ما من شأنه أن يصلح في
الدلالة على الإمامة الإلهية، حاول أحد المرجفين في شأن الإمامة الإلهية أن يطعن
في هذه الرواية من جهة رواية أحمد بن زياد الهمداني لها.
خلاصة الإشكاليات
ويمكننا أن نستلَّ من تلميحاته عدة نقاطٍ يمكن إدراجها ضمن ثلاث محاور:
المحور الأول: عقيدة زرارة (رضوان الله عليه) عند وفاته.
المحور الثاني: صِدق الصدوق وأمانته.
المحور الثالث: شخصية أحمد بن زياد بن جعفر الهَمَداني.
نترك المحورَين الأوَّلَين لمعالجتَين مستقلتَّين نبسط فيهما الكلام حولهما
بما يفي حقَّهما إن شاء الله، ونتحدَّث الآن في المحور الثالث، ولنُقَدِّم له بذكر
النقاط المُستَلَّة من كلام المرجف تمهيدًا لعلاجها، وهي:
الأولى: لَم يروِ عن الهَمَداني ولم يذكره غير الصدوق، فضلاً عن
توثيقه واعتماده. وهذا يفتح الباب لاحتمال وهميته، كما يُلمِّح المرجف.
الثانية: انفرد الصدوق عن الهمداني برواية مجموعةٍ من الروايات
عن علي بن إبراهيم، لا نرى لها أثرًا عن غير هذا الطريق، وإن ذكر الصدوق مع
الهمداني غيرَه في إسناد بعض الروايات غير الهامة عن علي بن إبراهيم. وهذا فتحٌ
لباب الريب في أمانة أحمد الهمداني وإن ثبت وجوده كما
يوحي المتحدِّث.
الثالثة: الناظر في بعض الروايات يراها –حسب دعوى المذكور- وكأنَّها
نُحِتَت للرد على إشكالياتٍ في الإمامة كان قد واجهها الصدوق في بغداد.
علاج الإشكاليات
وهذه النقاط لا مَورد لها مع الالتزام بأمانة الصدوق وصدقه ووثاقته وصحة
الاعتماد على تقييماته الرجالية، لكنَّا نتجاوز ذلك ونتنزَّل، فنشرع في علاج هذه
النقاط الثلاث مع قطع النظر عن ثبوت ذلك له:
الأولى: رواية الهَمَداني عن طريق غير الصدوق
إن توهُّم تفرُّد الصدوق بالرواية عن الهَمَداني إما أن ينشأ عن قلّة تتبعٍ
في هذا الموضوع أو عن تعمُّد كذبٍ وإيهام، فقد أثبتت مصادرنا رواية أربعةٍ من
المُحَدِّثين عنه غير الصدوق (رضوان الله عليه)، وهم:
أولاً: أحمد بن عبدون
وقد ذكر روايةَ ابن عبدون عنه الشيخُ الطوسي في الفهرست، حيث قال –عند ذكر
سنده لكتاب الفضائل لإبراهيم بن رجاء-: >أخبرنا به أحمد بن عبدون، عن أحمد بن
زياد بن جعفر الهمداني، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه... <(2).
ثانيًا: أحمد
بن محمد ابن عيّاش
وقد أُثبِتَت رواية ابن عياش عنه في مواضع، منها:
ما رواه الشيخ في التهذيب في باب صوم الأربعة الأيام في السنة، قال:
>أبو عبد الله ابن عيَّاش، قال: حدَّثني أحمد بن زياد الهَمَذاني وعلي بن محمد
التستري، قالا: حدثنا محمد بن الليث المكي... <(3).
بل روى عنه ابن عياش في كتابه مقتضب الأثر أيضًا، حيث قال: >وأنشدني
الشريف أبو محمد الحسن بن حمزة العلوي الطبري لسفيان بن مصعب العَبْدي، وحدَّثنيه
بخبره أحمد بن زياد الهَمَداني، قال: قال: حدَّثني علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدَّثني
أبي... <(4).
ثالثًا: علي بن محمد بن مَتَّوَيْه
وقد ذكر رواية ابن مَتَّوَيْه عنه الخزاز القمي في الكفاية؛ إذ قال في باب
(ما جاء عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري ما يوافق هذه الأخبار ونصِّه على ابنه
الحسن) : >حدَّثنا علي بن محمد بن مَتَّوَيه، قال: حدَّثنا أحمد بن زياد بن
جعفر الهمذاني، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم... <(5).
وقد
تصحَّف اسمه في بعض نسخ الكفاية(6).
رابعًا: علي بن محمد بن علي العلوي
وذكر رواية العلوي عنه جعفر بن أحمد القمي في كتابه المسلسلات، حيث قال:
>حدثني علي بن محمد بن علي العلوي، قال: حدَّثني أحمد بن زياد بن جعفر، عن علي
بن إبراهيم، عن أبيه، عن الريّان بن الصلت... <(7).
وبهذا يتبيَّن عدم
تفرُّد الصدوق بالرواية عن الهَمَداني، فلا وجه لتوهُّم وهميِّته، نقول هذا
تنزُّلاً، وإلا فالصدوق أنزه وأجل وأعلى من أن يخترع شخصيةً يكذب من خلالها على
محمدٍ وآل محمد.
الثانية: رواية الهَمَداني عن علي بن إبراهيم
إن وضع علامة
الاستفهام على رواية الهمداني عن علي بن إبراهيم لا يخلو إمَّا أن يكون اتهامًا
للصدوق أو للهمداني، فلنتحدّث على الوجهَين:
أولاً: اتهام الصدوق
يكفي في الحديث عن أصل رواية الهمداني عن علي بن إبراهيم الإشارة لما
تقدَّم من شواهد؛ إذ كلها –عدا رواية التهذيب- مرويةٌ عنه عن علي بن إبراهيم، ومن
هنا نهتمُّ هنا بذكر ما وقعنا عليه مِمَّا رواه الصدوق عن الهمداني عن القمي ورواه
غيرُه بعينَه عن الهمداني عن القمي أيضًا:
1- ما رواه في عيون الأخبار: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر
الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبد
السلام بن صالح الهروي، قال: أخبرنا وكيع، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن
سليط، قال: قال الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): مِنَّا اثنا عشر مهديًّا،
أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وآخرهم التاسع من ولدي،
وهو القائم بالحق، يحيي الله (تعالى) به الأرضَ بعد موتها، ويُظهِر به دين الحقِّ
على الدين كلِّه ولو كره المشركون، له غيبةٌ يرتَدُّ فيها قومٌ، ويثبت على الدين
فيها آخرون، فيؤذَون، فيُقال لهم: >متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟<<<<،
أما إن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يَدَي رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله)<(8).
إذ روى عين هذه الرواية عن الهمداني ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر، قال:
>حدَّثنا أبو علي أحمد بن زياد الهمداني، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم،
قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا عبد السلام بن صالح الهروي، قال: أخبرنا وكيع بن
الجرَّاح، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: قال الحسين (عليه
السلام): مِنَّا اثنا عشر مهديًّا... < إلى آخر الحديث(9).
2- ما رواه في كمال الدين: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهَمَداني
(رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، قال: حدَّثني عبد الله بن أحمد
الموصلي، عن الصقر بن أبي دُلَف، قال: لمَّا حمل المتوكِّل سيدنا [أبا] الحسن
(عليه السلام)، جئت لأسأل عن خبره، قال: فنظر إليَّ حاجب المتوكِّل، فأمر أن
أُدْخَل إليه، فأُدْخِلتُ إليه، فقال: يا صقر، ما شأنك؟ فقلتُ: خيرٌ أيها الأستاذ.
فقال: اقعد. قال الصقر: فأخذني ما تقدَّم وما تأخَّر وقلتُ: أخطأتُ في المجيء.
قال: فوحى الناسَ عنهُ، ثم قال: ما شأنك؟ وفيمَ جئت؟ قلت: لخبرٍ ما. قال: لعلَّك
جئتَ تسأل عن خبر مولاك. فقلتُ له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين. فقال: اسكت،
مولاك هو الحق، لا تتحشَّمني؛ فإني على مذهبك. فقلتُ: الحمد لله. فقال: أ تُحِبُّ
أن تراه؟ فقلتُ: نعم. فقال: اجلس حتى يخرج صاحب البريد. قال: فجلستُ، فلمَّا خرج،
قالَ لغلامٍ له: خذ بيد الصقر، فأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس، وخلِّ
بينه وبينه... < إلى آخر الحديث(10).
إذ روى عين هذه الرواية عن الهمداني الخزاز القمي في كفاية الأثر عن ابن
متويه عن الهمداني، قال: >حدَّثنا علي بن محمد بن مَتَّويه، قال: حدَّثنا أحمد
بن زياد بن جعفر الهمذاني، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، قال: حدَّثني عبد الله بن
أحمد الموصلي، عن الصقر بن أبي دُلَف، قال: لمَّا حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن
(عليه السلام)، جئتُ أسأل عن خبره... < إلى آخر الحديث(11).
ويلوح نحوٌ آخر من الاتهام للصدوق (رضوان الله عليه) في كلمات المذكور، وهو
اتهامه بإشراك غير الهمداني معه في بعض رواياته عن علي بن إبراهيم ربما يعني أن
ذلك لأجل حمايته من الرَّيب في شأنه، كذا يلوح من تلميحاته، وينكشف واقع ذلك بما
سيأتيك في معالجة اتهام الهمداني.
ثانيًا: اتهام الهَمَداني
ويمكن معالجة اتهام الهمداني على نحوَين، فالنحو الأول هو الذي نفترض فيه
التزام الطرف الآخر بصِدق الصدوق وأمانته، والنحو الآخر نغض النظر فيه عن التزام
الطرف الآخر بصِدق الصدوق وأمانته أو عدم التزامه
النحو الأول:
ويكفي في هذا النحو إيراد بعض الروايات التي رواها الصدوق عن الهمداني عن
علي بن إبراهيم القمي، وأن نُنَوِّه بروايته إيّاها بعينها عن غير الهمداني عن
القمي، فمن هذه الروايات:
1- ما رواه في كمال الدين: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهَمَداني
(رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، قال: حدَّثني عبد الله بن أحمد
الموصلي، عن الصقر بن أبي دُلف، قال: لمَّا حمل المتوكِّل سيدنا أبا الحسن
(عليه السلام)، جئتُ لأسأل عن خبره... < إلخ(12).
فقد رواها بعينها في معاني الأخبار والخصال عن ابن المتوكِّل، قال (رضي
الله عنه): >حَدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكِّل، قال حدَّثنا علي بن إبراهيم،
عن عبد الله بن أحمد الموصلي، عن الصقر بن أبي دُلف، قال: لما حمل المتوكِّل
سيدنا أبا الحسن (عليه السلام)، جئتُ أسأل عن خبره... < إلخ(13).
2- ما رواه في كمال الدين من بعض طرق حديث اللوح، حيث إن بعضها عن جملةٍ من
مشايخه –ومنهم الهمداني- عن علي بن إبراهيم، قال (رضي الله عنه): >وحدَّثنا أبي
ومحمد بن موسى المتوكِّل ومحمد بن علي ماجيلَوَيْه وأحمد بن علي بن إبراهيم والحسن
بن إبراهيم بن ناتانة وأحمد بن زياد الهمداني (رضي الله عنهم)، قالوا: حدَّثنا علي
بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن بكر بن صالح، عن عبد الرحمن بن سالم، عن
أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال أبي (عليه السلام) لجابر بن
عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة، فمتى يَخِفُّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟...
< إلى آخر الحديث(14).
3- ما رواه في الأمالي وعيون الأخبار من حديث دفع الشبهة عن عصمة الأنبياء
في مجلس المأمون، حيث رواه في الأول عن الهمداني عن القمي(15)،
وفي الثاني عن عدةٍ من مشايخه –بينهم الهمداني- عن القمي، فقد قال في عيون
الأخبار: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) والحسين بن
إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتًّب وعلي بن عبد الله الورَّاق (رضي الله عنهم)،
قالوا: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدَّثنا القاسم بن محمد البرمكي،
قال: حدَّثنا أبو الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه
السلام) أهلَ المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس
والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحدٌ إلا وقد ألزمه حجَّته كأنه أُلقِمَ
حجرًا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم، فقال... < إلى آخر الحديث(16).
4- ما رواه في الأمالي، قال: >حدًّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني
(رحمه الله)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن
محمد بن أبي عُمَير، عن معاوية بن عمَّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كان
بالمدينة رجلٌ بطَّال يضحك الناس منه، فقال: قد أعياني هذا الرجل –يعني علي بن
الحسين(عليه السلام)-. قال: فمرَّ عليٌّ (عليه السلام) وخلفه موليان له، فجاء
الرجل حتى انتزع رداءَه من رقبته ثم مضى، فلم يلتفت إليه عليٌّ (عليه السلام)،
فاتَّبعوه وأخذوا الرداءَ منه، فجاؤوا به، فطرحوه عليه، فقال لهم: من هذا؟ فقالوا
له: هذا رجلٌ بطَّالٌ يُضحِكُ أهل المدينة. فقال: قولوا له: إن لله يومًا يخسر فيه
المبطلون<(17).
فقد رواها بعينها الشيخ المفيد (رضي الله عنه) عن الشيخ الصدوق، عن شيخه
ماجيلَوَيْه، قال في أماليه: >أخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، قال:
حدَّثنا محمد بن علي ماجيلَوَيْه، قال حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد
بن أبي عُمَير، عن معاويةَ بن عمَّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كان
بالمدينة رجلٌ بطَّال يُضحِكُ أهل المدينة... < إلى آخر الرواية(18).
5- ما رواه في الأمالي عن مجموعةٍ من مشايخه –وأحدهم الهمداني-، قال:
>حدًّثنا أبي (رحمه الله) ومحمد بن موسى المتوكِّل ومحمَّد بن علي ماجيلَوَيْه
وأحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم وأحمد بن زياد بن جعفر الهَمَداني والحسين بن
إبراهيم بن ناتانة (رضوان الله عليه)، قالوا: حدًّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن
أبيه إبراهيم بن هاشم، عن أبي هُدْبة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله): طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى
من رآني<(19)،
وتعليق الصدوق بعد الحديث جديرٌ بالالتفات؛ إذ قال: >وقد أخرج علي بن إبراهيم
هذا الحديثَ وحديث الطير بهذا الإسناد في قرب الإسناد<.
وفي هذا الكفاية وإن كان لنظيره مزيد، ولا يغرنَّك دعوى إشراك الصدوقِ غير
الهَمَداني معه في الروايات غير الهامة؛ إذ تكفيك الروايات الثلاث الأولى في
الالتفات لوَهْن هذا الادِّعاء؛ فالروايتان الأولى والثانية ترتبطان بالنصِّ على
أئمة الهدى (صلوات الله عليهم)، بل إن الثانية من الأخبار الهامة في النصِّ عليهم
(صلوات الله عليهم)، والرواية الثالثة تدفع وجوه ارتيابٍ في عصمة الأنبياء (عليهم
السلام)، ومحلُّ الاعتقاد بعصمتهم (عليهم السلام) عندنا لا يخفاك، والاطلاع على
متن الرواية وما تمثِّله مضامينها يُطلعك على مدى أهميتها في هذا الملف.
النحو الثاني:
ومع غض النظر عن الالتزام بصِدق الصدوق وأمانته –سلبًا وإيجابًا- أو
التنزُّل مع المذكور، تكشف لك روايات علي بن إبراهيم القمي التي رواها الهَمَداني
عنه ورواها بعينها غير الهمداني عنه، فمنها:
1- ما رواه الصدوق في كمال الدين، قال: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر
الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن صالح
بن السندي، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلتُ على موسى بن جعفر (عليهما
السلام)، فقلتُ له: يا بن رسول الله، أنت القائم بالحق؟ فقال: أنا القائم بالحق،
ولكن القائم الذي يُطَهِّر الأرض من أعداء الله (عزَّ وجلَّ) ويملؤها عدلاً كما
ملئت جورًا وظلمًا هو الخامس من ولدي، له غيبةٌ يطول أمدُها؛ خوفًا على نفسه،
يرتَدُّ فيها أقوام ويثبت فيها آخرون. ثم قال (عليه السلام): طوبى لشيعتنا
المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا الثابتين على موالاتنا والبراءة من أعدائنا،
أولئك مِنَّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمةً، فرضينا بهم شيعةً، فطوبى لهم، ثم طوبى
لهم، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة<(20).
حيث روى الخزّاز في الكفاية هذه الروايةَ عن القمي بواسطةٍ مختلفة، قال:
>حدَّثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، عن عمِّه الحسن بن حمزة، عن علي بن إبراهيم
بن هاشم، عن صالح السِّندي، عن يونس بن عبد الرحمن، قال: دخلتُ على موسى بن
جعفر... < إلى آخر الحديث(21).
2- ما رواه الصدوق في الأمالي، قال: >حدَّثنا أحمد بن زياد الهَمَداني
(رحمه الله)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي
عُمَير، عن جميل بن درَّاج، عن الصادق جعفر بن محمَّد (عليه السلام)، قال: إذا
أراد الله (عزَّ وجلَّ) أن يبعثَ الخلقَ، أمطرَ السماء على الأرض أربعين صباحًا،
فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم< (22).
حيث وردت هذه الرواية في النسخة المتداولة في أيامنا هذه من تفسير القمي
ووردت في مختصر تفسير القمي لابن العتائقي(23)،
قال في النسخة المتداولة: >وحدَّثني أبي، عن ابن أبي عُمَير، عن جميل بن درّاج،
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق... <
إلى آخر الرواية(24).
3- ما رواه الصدوق في معاني الأخبار، قال: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن
جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن
أبي عمران، عن يونس بن عبد الرحمن، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه
السلام)، قال: { الم } هو حرفٌ من حروف اسم الله الأعظم المُقَطَّع في القرآن
الذي يؤلِّفه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) والإمام، فإذا دعا به، أُجيبَ. { ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتَّقين }، قال: بيانٌ لشيعتنا { الذين يؤمنون بالغيب
ويقيمون الصلاة ومِمَّا رزقناهم يُنفقون }، قال: مِمَّا علَّمناهم ينبؤون، ومِمَّا
علَّمناهم القرآن يتلون<(25).
إذ قد وردت في تفسير القمي المتداول باختلافٍ يسير، قال فيه: >حدَّثني
أبي، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد
الله (عليه السلام)، في قوله (تعالى): { ذلك الكتاب لا ريب فيه }، قال: { الكتاب
} عليٌّ (عليه السلام)، لا شكَّ فيه { هدىً للمتَّقين }، قال: بيانٌ لشيعتنا،
قوله: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومِمَّا رزقناهم ينفقون }، قال مِمَّا
علّمناهم ينبؤون، ومِمَّا علَّمناهم من القرآن يتلون، وقال: { الم } هو حرفٌ من
حروف اسم الله الأعظم المقطَّع في القرآن الذي خوطِبَ به النبي (صلَّى الله عليه
وآله) والإمام، فإذا دعا به، أُجيبَ<(26).
4- ما رواه الصدوق في كمال الدين وعيون الأخبار، قال –واللفظ
للأول-: >حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دِعبل بن علي
الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي التي
أولها:
مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ .. ومنزل وحيٍ مُقْفِرُ
العرصاتِ
فلمَّا انتهيتُ إلى قولي:
خروج إمامٍ لا محالة خارجٌ .. يقوم على اسم الله
والبركاتِ
يميّز فينا كل حقٍّ وباطلٍ .. ويجزي على النعماء
والنقماتِ
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديدًا، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي: يا
خزاعي، نطق روح القدس على لسانكَ بهذين البيتَين، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى
يقوم؟ فقلتُ: لا يا مولاي، إلاّ أنّي سمعتُ بخروج إمامٍ منكم، يُطهِّر الأرضَ من
الفسادِ ويملؤها عدلاً كما ملئت جورًا. فقال: يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني،
وبعد محمَّدٍ ابنه علي، وبعد عليٍّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجَّة القائم،
المُنتظَر في غيبته، المُطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدنيا إلا يومٌ واحدٌ،
لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتى يخرجَ فيملأ الأرضَ عدلاً كما ملئت جورًا،
وأمَّا متى، فإخبارٌ عن الوقت، فقد حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنَّ
النبي (صلَّى الله عليه وآله) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذريّتك؟
فقال (عليه السلام): مَثَلُه مَثَل الساعة التي {لا يُجلّيها لوقتها إلا هو
ثَقُلَت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة}<(27).
فقد رواه الخزّاز القمي عن محمد بن عبد الله بن حمزة عن عمه عن القمي، قال:
>حدَّثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، قال: حدًّثنا عمي الحسن بن حمزة، قال:
حدًّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دعبل
بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا (عليه السلام) قصيدتي التي أولها...
< إلى آخر الرواية(28).
5- ما رواه الصدوق في كمال الدين، قال: >حدًّثنا أحمد بن زياد بن جعفر
الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي
أحمد محمد بن زياد الأزدي، قال: سألت سيدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن قول
الله (عزًّ وجلَّ): { وأسبغ عليكم نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنة }، فقال (عليه السلام):
النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب. فقلتُ له: ويكون في الأئمة
مَن يغيب؟ قال: نعم، يغيب عن أبصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره،
وهو الثاني عشر مِنَّا، يُسَهِّل الله له كلَّ عسير، ويُذَلِّل له كلَّ صعبٍ،
ويُظهِر له كنوز الأرض، ويُقَرِّب له كلَّ بعيد، ويُبير به كلَّ جبَّارٍ عنيد،
ويُهلِك على يده كلَّ شيطانٍ مَريد، ذلك ابن سيدة الإماء الذي تخفى على الناس
ولادته، ولا يحلُّ لهم تسميته حتى يظهره الله (عزًّ وجلَّ)، فيملأ الأرض قسطًا
وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا<(29).
فقد رواه الخزّاز عن محمد بن عبد الله بن حمزة عن عمه عن القمي، قال:
>وعنه، عن عمّه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن أبي أحمد محمد بن زياد
الأزدي، قال: سألت سيدي موسى بن جعفر (عليه السلام) عن قول الله (عزًّ وجلَّ)...
< إلى آخر الحديث(30).
ومن المهم الالتفات إلى مظهرٍ من مظاهر أمانة الصدوق ها هنا، إذ قال بعد
إيراده الحديثَ: >لم أسمع هذا الحديثَ إلا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني
(رضي الله عنه) بهمدان عند منصرفي من
حجّ بيت الله الحرام، وكان رجلاً ثقةً ديِّنًا فاضلاً (رحمة الله عليه
ورضوانه)<، فهل هذا سلوك من يريد الاختلاق!؟ تأمَّل!...
الثالثة: أدلَّةٌ نحتها الصدوق لعلاج إشكالات واجهها؟
وبما تقدَّم يتبيَّن لك وجه الضعف في دعوى نحت
الصدوق (رضي الله عنه) لهذه الروايات عن الهمداني بغرض علاج إشكالات واجهها في
بغداد؛ ففضلاً عن صِدق الصدوق وأمانته، حتى لو تنزّلنا وغضضنا النظر عنها، فإنَّا
نجد أمامنا رواياتٍ:
أولاً: بعضها لا ينفرد
الصدوق بروايتها.
ثانيًا: وبعضها –حتى مع غض
النظر عن شأنه في الثقة والأمانة- لا يحتاج الصدوق وضعَها على الهمداني؛ لروايته
لها عن طريق غيره من مشايخه.
ثالثًا: وبعضها يرويها غير
الصدوق عن غير الهمداني عن القمي.
رابعًا: بل يمكننا أيضًا أن
نضيف على ذلك: إن بعض الروايات لا تنحصر روايتها بعلي بن إبراهيم أساسًا –فضلاً عن
الهمداني-، بل إن بعضها رواها بعض مشايخ الصدوق نفسه عن غير القمي، ولا بأس بذكر
مثالٍ عليها:
وهو ما رواه الصدوق في كمال الدين، قال: >حدَّثنا أبي ومحمد بن الحسن
(رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميَري، عن محمد بن عيسى، عن
سليمان بن داود، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: في صاحب
هذا الأمر أربع سُنَنٍ من أربعة أنبياء (عليهم السلام): سنَّةٌ من موسى، وسُنَّةٌ
من عيسى، وسُنَّةٌ من يوسف، وسُنَّةٌ من مُحَمَّد (صلوات الله عليهم أجمعين). فأما
من موسى فخائفٌ يترقَّب، وأمَّا من يوسف فالحبس، وأمَّا من عيسى فيُقال: >إنه
مات< ولم يَمُت، وأما من محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) فالسيف<، قال
بعد الحديث: >حدَّثنا أحمد بن زياد الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي
بن إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن عيسى، عن سليمان بن داود، عن أبي بصير، عن أبي
جعفر بمثل ذلك<(31)،
وقد أخرجه والده في الإمامة والتبصرة كذلك(32).
وأخيرًا أقول: إن نحت القصص ورسم السيناريوهات لا يجعلها أمرًا واقعًا
يُبنى عليه ما لم تُدعَم بالأدلة والشواهد العلمية المعتبرة وقيد العلمية
والاعتبار هامَّان لا يمكن الاستغناء عنهما، دون ذلك يمكن لأيِّ مُفترِضٍ أن يفترض
أيّ افتراض مهما كانت صفته، وأما سبك الإثارة الصحفية وسيناريوهات الإثارة
والدعاوى الضخمة والتمويهات، فهي لا تغيِّر من الواقع شيئًا حتى وإن اشتملت على
بعض الحق.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق