حفلت الأيام الماضية بسلسلةٍ من التداعيات على إثر
تصريحٍ للسيد كمال الحيدري، جاء ضمن الحلقة الخامسة من برنامج (المراجعة) مع
الإعلامي سعدون ضمد، والتي عُقِدت في ١٧ أكتوبر الجاري، فصار الناس بين مؤيّد
ومستشكلٍ ومتوقِّفٍ يشعر بضبابية المشهد، ولأن للمسألة أهميَّةً أعتدُّ بها، كان
من الحسن أن أكتب ما أرجو أن يُساهم في وضوح موضع الإشكال ومحلِّ النزاع حتى ينقشع
ضباب المشهد وينجلي حاله لمن أراد ذلك.
وبدايةً أحببت أن أوضِّح أن في اللقاء عدة إشكالات لا
إشكالاً واحدًا فحسب، إلا أنَّ ما ذاع وانتشر هو مقطعٌ يسيرٌ من اللقاء فتمَّ
الالتفات له وحصلت الغفلة عن سواه، وحتى هذا المقطع اليسير لم يتنبَّه الكثير لوجه
الإشكال الرئيس فيه لأجل عدم مطالعتهم اللقاء كاملاً وبالتالي عدم التفاتهم
للسياق، فأقول:
الإشكال الأساس يتَّضح بالالتفات إلى نقطتَين:
- الأولى: الحديث كان عن التكفير على ضوء الاحتراب
والاقتتال بين المسلمين، فيقول الإعلامي ضمد مثلاً في توطئة الحوار: "واحنا
مثل ما تعرف حضرتك نناقش الواقع العراقي، الواقع العراقي اكو مشكلة، وهاي دائمًا..
بعض الأحيان يتندَّر عليها المتندّرون، يقلّك: والله انت يعني –على تعبير
العراقيين- (فايخ)، القتل، اكو قتل بين المختلفين".
يقطعه الحيدري بقوله:
"تدعو للحوار، ويقتل بعضكم بعضا".
يواصل ضمد: "تعال تحاور، وبعدين
تطلع لنا ناس وسطيين معتدلين، فيصير كأنه موضوعة الحوار، مو البرنامج، موضوعة
الحوار بجانب، المتحاورين كلهم –سواء كانوا مراجع، رجال دين، علمانيين، ما ادري
شنهو- والواقع بجانب آخر".
يقول الحيدري:
"صحيح".
يواصل ضمد: "يسير بموازاته.. فأنا أريد أناقش اليوم موضوع
التكفير والقتل، هذا بيه مباني وبيه أصول وقواعد بالفقه الشيعي.. فضلاً بعدين عن
الفقه السني؛ لأن الواقع العراقي بيه".
يقطعه الحيدري بقوله: "سنةً
وشيعة".
يواصل ضمد: "لو لا، لو هذا طارئ لو مو طارئ.. وشلون ممكن نعالجه".
وشواهد هذا السياق متعدِّدةٌ في اللقاء، غير
محصورةٍ بهذا الكلام، وعزل المقطع المنتشر عن هذا السياق يُفقد المشهد جزءًا
هامًّا من معالمه، فالحديث إذًا عن (التكفير الباطني) –والذي سيأتي بإذن الله
بيانه وبعض ما يرتبط به في مقالٍ آخر غدًا- ليس مجرَّد حديثٍ عن رأيٍ علميٍّ
موجودٍ وانتهى الأمر، بل حديثٌ عنه بوصفه مشكلةً من المشاكل ذات الدور في الاقتتال
والاحتراب، وما طرحه من مسلك إنما هو حلٌّ لإنهاء هذه المشكلة –على حد دعواه-،
فالقائلون بهذا الرأي –وهم فقهاء الشيعة قاطبة كما ادَّعى- يشاركون في إنتاج مشهد
الاقتتال بينهم وبين الاتجاهات والمذاهب الأخرى.
- الثانية: إن إذاعة هذا الكلام ونقل ما نقله من أقوال
ليس بين جدران أربعة، بل أمام شاشةٍ فضائيةٍ، بل ويشاهدها السني والشيعي، غير
مؤطرةٍ بأهل الإحاطة بتلك المفردات –كالمختصين- فيعطونها أبعادها العلمية
والمعرفية الواقعية، وغير محدودةٍ بمَن لا يستثيرهم هذا الخطاب ويستفزّهم خارج
إطاره المرسوم له.
ومن هنا، فمساهمة مثل هذا الخطاب في إيقاد نار فتنةٍ بين
المسلمين أمرٌ متوقَّع، وفهم تلك المفردات في غير إطارها الطبيعي الواقعي أمرٌ
مرتَقَب، وإعطاؤه انطباعًا غير صحيحٍ عن سلوك الشيعة وفكرهم وثقافتهم أمرٌ منظور،
وخطر مثل هذا ما لم تتمّ معالجته فهو ينذر بفتنٍ لا يبعد معه سفك دمٍ حرام، بل ما
هو أدهى وأمر، وقد لاحت بعض بوادر ذلك، وصدور هذا الكلام من رجلٍ ذو بعدٍ إعلامي
وقد اعتيد على شطحاته ومصائبه أمرٌ لا شكّ يدعو لوقفةٍ بيِّنة واضحة تدفع ضرر
وتبعات هذا التهوُّر الذي جاء بدعوى الإصلاح والعلاج، فمحل علاج هكذا شؤون إن
استلزم المسّ بأمورٍ حساسة ليس هذا المحل، ولا مقامه هذا المقام.
هذا فضلاً عن أنّ أصل الادِّعاء، وهو كون فقهاء الشيعة
قاطبة يقولون بأن المخالفين مسلمون ظاهرًا كفارٌ باطنًا، والذي رتَّب عليه
ادِّعاءه الآخر، ليس صحيحًا أساسًا، ولأن تبيين عدم صحة الادِّعاء مساعدٌ في
التخفيف من تبعات المشكلة، ظهر بعض العلماء فبيَّنوا انخرامها من خلال فتاوى وآراء
السيد السيستاني والشيخ الوحيد والحجة الكوهكمري والسيد البروجردي والشهيد الصدر
وغيرهم (رحم الله ماضيهم وحفظ باقيهم)، والتي تتضمن الالتزام بواقعية إسلام المخالفين،
وأكَّد بعض العلماء من جانبٍ آخر على الفتاوى والتوجيهات والإرشادات المؤكدة على صلة
المخالف ومعاشرته بالمعروف والتعامل بالحسنى وما جرى مجرى ذلك، ونهيهم الأكيد عن
فعل ما يوجب الاستفزاز الطائفي والفتنة بين المسلمين، إلى غير ذلك من أمورٍ مانعةٍ
من تسبّب الشيعة في إحداث ما يوجب احترابًا واقتتالاً مع أحدٍ من المسلمين.
ولا أكشف مستورًا إذ أقول: إن هذا اللقاء ليس أول موردٍ
تحدّث الحيدري فيه بهذا الكلام علنًا بنحوٍ يستلزم الفتن، إلاّ أنّ هذا المورد
أوضحها وأجلاها.
تعليقات
إرسال تعليق