التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مع الإصلاح... ولكن!

بسم الله الرحمن الرحيم

تبرز بين الحين والآخر، هنا وهناك، دعواتٌ للإصلاح الديني، تنقية الموروث الديني، تهذيب الشعائر، غربلة الخطاب الديني وتشذيبه، وهكذا...، وهذا -في نفسه- جميل، لكن لا بأس بوقفة.

لا يخفى أن هذه المفردات (إصلاح، تنقية، تهذيب...) مما تطرب له النفس؛ إذ هي مفرداتٌ -بطبيعتها- إيجابيةٌ برّاقة، وعندما ترتبط هذه المفردة بالنفيس العزيز -أعني شؤونَ الدين- فإن دعواتٍ كهذه -مع احتمال جديّتها وجدواها- تجتذب المهتم؛ لأهمية ما ارتبطت به، لا سيّما إن كان هذا المهتم مُدرِكًا لأهمية الحرص والحفاظ على شؤون الدين نقيةً غضةً متينةً مُحكَمة، وهذا قد يفرضه صِدق الانتماء له، حيث تكون الرغبة في كَونه مصونًا من كل عبثٍ وتشويهٍ -عمديًا كان أم لم يكن- إفرازًا طبيعيًا جدًا، وقد يفرضه مطلق الاهتمام، أي ما هو أعم حتى من الانتماء.

وكيفما كان، فإنّ مرتدي (ثوب الإصلاح) يكتسب منه بريقه ولمعانه في أعين ناظريه، فيستجلب من يستجلب، ويجتذب من يجتذب، فإن كان المتزيّي بزيّ الإصلاح مصلحًا فعلاً، فبهؤلاء تقرّ العيون، وبهم يُحفَظ الدين ومعالمه وأهله، إلاَّ أنَّ المُلاحَظ في ساحتنا اليوم تكرُّر نماذج متعدَّدة على منوالٍ آخر، فتُغَلَّف ممارساتٌ بأوصاف تخالف واقعها، إما لاشتباه ناشئٍ عن سهوٍ وشبهةٍ، أو لغيره -والعياذ بالله-، فيأتيك -مثلاً- مَن يعبث ببعض إرث أهل البيت (عليهم السلام) على المستوى العقدي واصفًا إياه بـ(المدسوسات الصفوية) رغم كونه مُثبتًا في كتب علمائنا من القرن الثالث الهجري، ويأتيك مَن يخبط خبطًا في معالم المدارس العلمية وأعلامها كقول بعضهم في حق المجلسي أنه يعتقد وجوب العمل بكل ما في الكافي، ومَن ينفي انتساب أدعيةٍ لرواياتٍ ناسبًا إياها للمنامات، ومَن يعالج التراث بالأمزجة والاستحسانات المحضة وغير ذلك من أنماط العبث والخبط.

وغير خفيٍ أن وجود هذه النماذج ممَّا يدعو للانتباه والالتفات في التعاطي مع دعواتٍ كهذه، وغنيٌ عن التنبيه أن الأمر مثله مطلوبٌ أيضًا مع المتعنوِن بحفظ معالم الدين من هذا العبث، وإنما يتمُّ ذلك من خلال الحرص على اكتساب أسس المعرفة الدينية وضرورياتها، ومن خلال الحرص على أن الرجل الذي تؤخذ منه معالم الدين إنما هو العالم ذو الدراية المؤمن التقيُّ الأمين، ورد عن مولانا الباقر (عليه السلام) في قوله (عزَّ وجَل) { فلينظر الإنسان إلى طعامه }(1) أنه سئل: "ما طعامه؟"، فقال: "علمه الذي يأخذه، عمَّن يأخذه"(2)، وعن ابنه الصادق (عليه السلام) أنه قال: "أحكِم أمر دينك كما أحكم أهل الدنيا أمر دنياهم"(3)، ولا يتوهمَنَّ مؤمنٌ أن التركيز على صفات المأخوذ عنه لكونه ممتنع الخطأ ومنزَّهًا من الاشتباه والسَّهو أو أنَّ اتصافه بما سلف يمنعه من المَيل -والعياذ بالله-، فإنما يؤخذ عن مَن سلف وصفه؛ لأن تلك الأوصاف تورث الثقة بروايته ودرايته لمعارف الدين ومتعلقاته، أي الثقة بتبليغه معارف الكتاب والسنة، بكونه طريقًا مأمونًا لهما، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): "مَن أخذَ دينه من كتابِ الله وسنَّة نبيِّه (صلوات الله عليه وآله)، زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال، ردَّته الرجال"(4).


-----------------------------------------
(1) سورة عبس: 24.
(2) الكافي: ج1، ك فضل العلم، ب16 النوادر، ح8(135)، ص123 [ط دار الحديث].
(3) الكافي: ج15، ك الروضة، بعد ح337(15152)، ص554.
(4) الكافي: ج1، خطبة الكتاب، ص14.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل