التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل دلَّس الخوئي؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إنه لمن شرف المؤمن أن يكون مِمَّن يدفع عن أخيه المؤمن تهمةً باطلة وأن يُنكِر على هتك حُرمته، فضلاً عمّا لو كان هذا المؤمن عالمًا فقيهًا عدلاً ذائدًا عن الدين، مروِّجًا لشأنه، لكني وبصراحة وإن كان هذا بالنسبة لي مبعَث فخرٍ إلا أنَّي لم أعتد وأدأب على إظهار ذلك بمقالٍ وما أشبهه -وإن كنتُ أشكر الله على توفيقه إياي لفعله بغير هذه الوسيلة-، وهذه الكلمات التي بين يدَيكم إنما جاءت لغرضٍ آخر؛ ذلك أنّ المتحدِّث الذي أتناول كلامه يمارس التدليس لأهدافٍ سيئةٍ تُضِرُّ بالمؤمنين وثقتهم بالدين وعلمائه وحجج الصاحب (عجل الله فرجه)(1) إجمالاً لا بأفراد مخصوصين منهم فحسب، مِمَّا يترك آثارًا على مستوياتٍ متعدِّدةٍ ترتبط بعلاقة المؤمنين بدينهم وتديُّنهم -كما حدث لذلك بالفعل مع بعضهم-، وسبحان مَن أجرى شواهد مُدَّعايَ على لسانه، حيث قال: "أجاب جوابًا تدليسيًا"(2)، "أليس هذه خيانة لجواب السؤال؟"(3)، "وهذه خيانة، خيانة، خيانة في الأمانة العلمية، خيانة في الأمانة الدينية، كيف أن المرجع الأعلى وأن زعيم الحوزة العلمية يُدلِّس في فتاوى وإجابات وأسئلة في قضايا مهمة المقلدون يسألون عنها"(4)، "فإذا حصلت الخيانة في هذا الجواب، وحصل التدليس في هذا الجواب، احتمال التدليس يمكن أن يكون في باقي الأجوبة أيضًا، وهذا يُخِل بالأمانة العلمية والنزاهة العلمية والأخلاق العلمية"(5)، "هذه خيانة وتدليس واضح من المرجع، والمرجع الذي يدلِّس ويخون مرة، يُدلِّس ويخون مليون مرة، "ومن سرق الذرَّة، سرق الدُرَّة" كما يُقال"(6)، "تدليس! يعني أنا الآن كيف أثق بالسيد الخوئي والسيد الخوئي هنا يُدلِّس؟! هذا كذب صريح! كذب واضح!"(7)، "تدليس وخيانة وكذب وتجهيل واضح، وهذه من مشاكل المؤسسة الدينية"(8)، "والواقع يقول: إنهم [أي المراجع] يكرعون في الفكر الناصبي، فالصواب في خلافهم حتى يثبت قولهم أنهم يوافقون آل محمد"(9). ونواياه ومقاصده السيئة وإن كانت تنكشف لذي التأمُّل مع ملاحظة سيرته وكلماته إلا أن هذه العبائر صريحةٌ لا أجِدُ وجهًا في الالتباس في استكشاف مرامه بعدها، ومساعيه ليست مختصَّةً بالعلماء المعاصرين، بل شملت متقدِّميهم ومتأخريهم ومتأخري متأخريهم، أصوليَّهم وأخباريَّهم، نجفيَّهم وقُمّيَّهم...، ودعوى أنه لا يهدف من ذلك سوى تنبيه المؤمنين على عدم عصمة العلماء وإمكان وقوعهم في الخطأ دعوى لا قيمة لها وإن تفوَّه بها(10)؛ فمن الطبيعي أن لا يُقِرّ المجرم بقُبح جريرته ويُلبِسها ما يزيِّنها في أعين الناظرين!

إنّ غرضي من هذه الكلمات ليس إلاّ التأكيد على سوء نواياه وخُبثها من خلال إثبات تلبيسه وتدليسه على المؤمنين؛ كي يُجتنَب، بالإضافة لتنزيه ساحة الفقهاء العدول بنفي ما ادَّعى ثبوته في السيد الخوئي (رحمه الله)؛ إذ قد ادَّعى ثبوته فيه من جهة، واضطراده في غيره من الفقهاء من جهةٍ أخرى.

وأقول موجِزًا قبل الدخول في التفصيل أنَّ المُتَحدِّث ادَّعى من خلال قناته(11) أنَّ شهادة الزهراء (عليها السلام) والاعتداء عليها غير ثابتٍ عند السيد الخوئي (رحمه الله) مُرتكِزًا على عدم تبنّي السيد (رحمه الله) صحة طريق الشيخ الطوسي لكتاب سليم، مع تقديمه فهمًا لجوابٍ للسيد (رحمه الله) في صراط النجاة حول الموضوع ووصفه بالتدليس، ولأبدأ بالتفصيل والتبيان متناولاً بعضَ ما اشتمل عليه المقطع المذكور معنونًا إياه بـ (الإيهامات):

الإيهام الأول: انحصار الحجة بالحديث الصحيح سندًا

أوهم المتحدِّث أن الحجة منحصرةٌ في ما صحَّ إسناده من الأحاديث، وفرَّع عليه أنَّ مَن يقول بثبوت ظلامة الزهراء (عليها السلام) من جهةٍ أخرى مُرقِّعٌ، ويُفهَم ذلك من تلميحه بأكثر من عبارة ومن تصريحه حين قال: "ظلامة فاطمة غير ثابتة عند السيد الخوئي، تريدون أن ترقعوا وتقولوا ثابتة من جهةٍ أخرى هذه القضيةٌ راجعةٌ إليكم، رقعوا ما شئتم أن ترقعوا، لا شأن لي بكم، هذه الوثائق وهذه الحقائق..."(12).

ولا يخفى على مُطَّلعٍ بطلان ذلك، لكن لا بأس بشيءٍ من البيان: الحجة من الروايات غير منحصرةٍ بالحديث الصحيح سندًا، بل الكلام عن الحديث الصحيح السند هو كلامٌ عن الحجة من بين أخبار الآحاد(13) من الجهة السندية فحسب على تفصيلٍ ليس هنا محلُّه، ولدينا من الروايات ما هو حجةٌ غير أخبار الآحاد الصحيحة سندًا أيضًا، وهي:
- أولاً: الخبر المتواتر:
وحجية الخبر المتواتر أوضح من أن يُشار إليها ويُنَوَّه عليها، إلا أنَّ من اللطيف التنبيه على أن المتواتر -ببيان السيد الخوئي- على أقسام:
1) التواتر اللفظي: وهو اتفاق جماعةٍ امتنع اتفاقهم على الكذب عادةً على نقل خبرٍ بلفظه، كتواتر ألفاظ الثقلين.
2) التواتر المعنوي: وهو اتفاقهم على نقل مضمونٍ واحدٍ مع الاختلاف في الألفاظ، ودلالة الألفاظ على المضمون ذات أنحاء متعددة، ومثاله الأخبار الحاكية لحالات أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحروب، فإنها متفقةٌ على شجاعته.
3) التواتر الإجمالي: وهو ورود عدّةٍ من الروايات التي يُعلَم بصدور بعضها مع عدم اشتمالها على مضمونٍ واحد(14).

وبهذه المناسبة، فقد تبنَّى وصرَّح جملةٌ من العلماء بأن ما جرى على الزهراء (سلام الله عليها) من الأمور التي ثبتت بالتواتر، ومن بينهم العلامة المجلسي (رحمه الله)، حيث قال: "ثم إن هذا الخبر يدل على أن فاطمة (صلوات الله عليها) كانت شهيدة وهو من المتواترات، وكان سبب ذلك أنهم لما غصبوا الخلافة وبايعهم أكثر الناس بعثوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليحضر للبيعة، فأبى فبعث [الرجل] بنار ليحرق على أهل البيت بيتهم وأرادوا الدخول عليه قهرًا، فمنعتهم فاطمة عند الباب، فضرب قنفذ [غلامه] الباب على بطن فاطمة (عليها السلام) فكسر جنبيها وأسقطت لذلك جنينًا كان سماه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) محسنًا، فمرضت لذلك وتوفيت صلوات الله عليها في ذلك المرض"(15).

- ثانيًا: الخبر ذو القرينة:
وأعني به الخبر الذي تدلُّ على صحته قرينةٌ أو قرائن تورث العلم بصحته، وفي هذا الشأن تفاصيلٌ، لكن يكفي في المقام أن أُشير لتصريحٍ للسيد الخوئي حول ذلك، إذ يقول: "الخبر المُوجِب للوثوق والاطمئنان الشخصي يجب العمل به وإن كان ضعيفًا في نفسه، وليس ذلك لأجل حجية الخبر الضعيف، بل لأن الاطمئنان المُعَبَّر عنه بـ(العلم العادي) حجَّةٌ وإن كان حاصلاً مِمَّا لا يكون حجَّةً في نفسه كخبر الفاسق..."(16)، فلو غضضنا الطَّرفَ عن ما ذكروه من التواتر، فإنَّ ثبوت القضية بمبنى السيد الخوئي غير منحصرٍ فيه، بل ممكنٌ حتى بالأخبار المحتفة بالقرائن الموجبة للوثوق والاطمئنان، فهل يدَّعي المتحدِّث تجرُّدها عن القرائن؟

الإيهام الثاني: دلالة الجواب على ما فهمه

نقل المُتَحدِّث استفتاءً ورد في صراط النجاة(17)، وهذا نصُّه:

س: هل الروايات التي يذكرها خطباء المنبر وبعض الكُتَّاب عن [كسر ضلع الزهراء (عليها السلام)]، صحيحةٌ برأيكم؟
ج: ذلك مشهورٌ معروف، والله العالم.

وقدَّم فهمًا لجواب السيد الخوئي (رحمه الله)، وهو أن السؤال كان عن شيءٍ والجواب عن شيءٍ آخر، ورتَّب على فهمه أن السيد قد خان في جوابه وكذب، وهنا أقول: معنى الكذب أوضح من أن يُوَضَّح، فحتَّى ولو كان الجواب كما فهمتَه عن شيءٍ آخر غير المسؤول عنه، فأين الكذب؟ أما الكلام حول الخيانة، فهو إنما يكون عند التدليس والتلبيس وشبهه، وأين التدليس والتلبيس في الجواب؟ أم أن غاية الطعن في العلماء تجوِّز وسيلة إلباس الطعون جُزافًا؟

توضيح الجواب:
صرَّح السيد الخوئي بشهرة الأمر ومعروفيَّته دون التعرُّضِ لسوى ذلك، وهذا يُمكن أن يُفهَم -ابتداءً- بعدة وجوه، والمُعتَدُّ به عرفًا في هذا المقام اثنان، أما الأول: فهو أنه يريد أن يُفيد شهرة الأمر ومعروفيته وأن يصمت عن سوى ذلك دون أن تكون لديه نتيجةٌ واضحةٌ في البحث السندي في هذا المقام، ولو لعدم البحث سنديًا -في هذا الشأن- من الأصل، والثاني: أن السيد يريد أن يُفيد أن شهرة الأمر ومعروفيته بدرجةٍ تُغني عن الحديث عن تقييم أسانيده، وقد لمَّح بهذا المعنى -أي استغناء المسألة عن البحث السندي- تلميذه السيد محمد صادق الروحاني (حفظه الله) في استفتاءٍ له حين سُئلَ عن النصوص المعتبرة في موضوع كسر ضلعها (عليها السلام)، فأجاب: "لا أظنّ بمن تتبّع كلمات القوم والروايات أن يشكّ في ذلك؛ نظراً لكثرة الروايات واستفاضتها من طريق الفريقين، بالمستوى الذي يتولّد عنه تواتر إجماليٌّ للمسألة، ومع ذلك لا بأس بذكر بعض ما ورد في المقام..."(18).

والوجهان -المذكوران  آنفًا- عرفيّان مألوفان، ولعلّ الثاني يُرَجَّح بما ذكره المتحدِّث نفسه حين لمَّحَ إلى أنَّ دأب الميرزا التبريزي (رحمه الله) في صراط النجاة أن يُعلِّق على الجواب إن خالف فيه أستاذه، وبيان ذلك في النقطة التالية.

الإيهام الثالث: عدم تبنّي التبريزي لإثبات المسألة

قال الميرزا جواد التبريزي (رحمة الله عليه) في مقدمة صراط النجاة: "وقد سألني الشيخ [أي الشيخ موسى مفيد العاملي] أن أُعلِّق عليها بما يوافق نظري، فاستنسبتُ [أي رأيته مناسبًا] ما سأل وأجبته إليه، ونهجتُ في ذلك نهجًا مُعَيَّنًا، فتركت أجوبة الأستاذ الخوئي (قُدِّس سرّه) التي توافق نظري بلا تعليق إلا ما احتاج منها إلى توضيحٍ أو بيان نكتةٍ أو تدقيقٍ في الصورة المفروضة، أمّا ما أخالفه فيه، فعلَّقتُ عليه بعد تمام كلامه (قُدِّس سرُّه) وبهذا صارت الاستفتاءات وأجوبتها -بحمد الله- كتابًا يشتمل على أكثر مسائل الابتلاء في عصرنا الحاضر..."(19)، وإلى هذا لمَّح المُتَحدِّث حينما قال: "ميرزا جواد التبريزي لم يُعَلِّق، يعني نفس الرأي"(20)، وبالطبع فإنه يُرتِِّب على ذلك عدم تبنّي الميرزا لثبوت القضية لا سيّما مع ادعائه بأن "الميرزا جواد التبريزي رأيه الرجالي نفس رأي السيد الخوئي"(21).

عمومًا، هذا بالنتيجة يعني بأن جواب السيد يُمثِّل رأي الميرزا -لعدم تعليقه عليه-، وهل يُستفاد من الجواب -ولو بمعونة قرائن خارجية كعدم تبنّيهما اعتبار كتاب سليم الذي بين أيدينا(22)- عدم ثبوت القضية لديهما؟ هنا لا بأس بالعودة لاستفتاءٍ للميرزا التبريزي (رحمه الله) في كتابه (الأنوار الإلهية) حين سئل عن ظلامة كسر ضلعها (عليها السلام) وكلام البعض بعدم ثبوت ذلك بأسانيد معتبرة، فأجاب بما نصّه:
"بسم تعالى، كفى في ثبوت ظلامتها وصحّة ما نُقِل من مصائبها وما جرى عليها خفاء قبرها ووصيَّتها بأن تُدفَن ليلاً إظهارًا لمظلوميَّتها (عليها السلام) مُضافًا لما نُقِل عن عليٍّ (عليه السلام) من الكلمات في الكافي (ج1، ص458) عندما دفنها كما في مولد الزهراء (عليها السلام) من كتاب الحجة، قال (عليه السلام): "وستنبئك ابنتك بتظافر أُمَّتك على هضمها، فأحفّها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجد إلى بثِّه سبيلا، وستقول، ويحكم الله، والله خير الحاكمين".
وقال (عليه السلام): فبعين الله تُدفَن ابنتك سرًّا، ويُهضَم حقُّها، وتُمنَع إرثَها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله يا رسول الله المُشتكى".
وفي الجزء الثاني من نفس الباب بسندٍ مُعتبرٍ عن الكاظم (عليه السلام)، قال: "إنها صديقةٌ شهيدة"، وهو ظاهرٌ في مظلوميّتها وشهادتها.
ويؤيِّده ما في البحار (ج43، باب رقم11) عن دلائل الإمامة للطبري بإسناده عن كثيرٍ من العلماء عن الصادق (عليه السلام): "وكان سبب وفاتها أنّ قنفذًا أمره مولاه، فَلَكَزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسنًا"! والله الهادي للحق"(23).

أما ما ذكره من التشكيك في حقيقة تفاعل الميرزا (رحمه الله)  مع قضية الزهراء (عليها السلام)، فهو مِمَّا لا يُعبَأ به؛ لما لا يخفى من حال المُتحدِّث ونواياه وتعامله مع العلماء، إضافةً لوضوح شأن الميرزا (رحمه الله) في هذه القضية.

الإيهام الرابع: انحصار الأدلة في كتاب سليم

ولكمال الحديث في بيان تدليسه وتلبيسه وأغراضه لا بأس بالتعرُّض لإيهامٍ آخر، ومنها انحصار أدلة الحادثة في كتاب سليم، وقد سعى لذلك بنحوَين ثانيهما أوضح من الأول، أما الأول فهو قوله: "هذا الكتاب أقدم وثيقة وأهم وثيقة والوثيقة الوحيدة التي بين أيدينا التي تثبت الجريمة وتثبت الظلامة وتذكر لنا التفاصيل فيما يرتبط بظلامة الصديقة الكبرى (صلوات الله وسلامه عليها)"(24)، وقد يقول قائلٌ أن المُتحدِّث المُدَلِّس لم يُرِد بذلك أنه المصدر الوحيد للحادثة من أصلها، بل يريد أنه المصدر الوحيد الذي يجمع كل التفاصيل التي تضمَّنتها الحادثة، وأقول: هذا مُحتمَلٌ لو لم يبنِ على عدم اعتبار السيد (رحمه الله) لطريقَي الشيخ الطوسيّ (رحمه الله) للكتاب أنّ ظلامتها وشهادتها وما جرى عليها (عليها السلام) أمور غير ثابتةٍ عنده، لكنه فعل، فلا اعتبار بهذا الاحتمال.

ولإبطال هذا الإيهام، أقول: قد تمّ التعرُّض للحادثة ولبعض أحداثها في جملةٍ من المصادر، بل نسب البعض -حتى من مخالفينا- نقل الحادثة أو بعض تفاصيلها للشيعة من دون تخصيصٍ بكتاب سليم، ومن ذلك:

- ابن أبي الحديد: "فأمَّا الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة (ع) وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج وبقي أثره إلى أن ماتت وأن [رجلاً] أضغطها بين الباب والجدار فصاحت يا أبتاه يا رسول الله وألقت جنينًا ميِّتًا..."(25).
- الشيخ الطوسي (رحمه الله): "ومِمَّا أُنكِرَ عليه: ضربهم لفاطمة (عليها السلام)، وقد رويَ أنَّهم ضربوها بالسياط، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة أن [رجلاً] ضرب على بطنها حتى أسقطت، فسُمّيَ السقط مُحسِنًا..."(26).

فمِمَّا ورد حول الحادثة:
- ما رواه العياشي عن أحد الصادقَين (عليهما السلام)، وفيه: "فأرسل إليه الثالثة ابن عمٍ له يُقال قنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليها) تحول بينه وبين عليٍّ (عليه السلام)، فضربها، فانطلق قنفذ..."(27).

- ما رواه المسعودي مرسلاً: "فوجَّهوا إلى منزله، فهجموا عليه، وأحرقوا بابه، واستخرجوه منه كرهًا، وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنًا..."(28).

- ما رواه الصدوق بسنده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: "بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إذ التفت إلينا، فبكى، فقلتُ ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: أبكي مِمَّا يُصنَع بكم بعدي. فقلتُ: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أبكي من ضربتك على القَرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعنة الحسن في الفخذ والسُّمّ الذي يُسقى، وقتل الحسين..."(29)، ورواه ابن شهرآشوب مرسلاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(30).

وروي غيرها في غيرها من الكتب.

الإيهام الخامس: عدم الصحة السندية -بمبنى الخوئي- لأي دليل

أخيرًا، لو تنازلنا عن كلِّ ما سبق، هل صحَّ كلام المُدَّعي بعدم صلاحية الأدلة على شهادتها (عليها السلام) من الجهة السندية على مبنى السيد الخوئي (رحمه الله) فعلاً؟ أم لا؟

أقول: كما أنَّ المُدَلِّس لم يستدلّ بكلامٍ مباشرٍ للسيد الخوئي (رحمه الله) في الكلام عن المسألة، بل استند على مبنى السيد ورأيه الرجالي في كتاب سليم، فإنِّي كذلك سأتحدَّث وفق مبانيه (رحمه الله)، ولدينا ها هنا روايتان قد صحَّ إسنادهما -وفق مبانيه-:
- الأولى: روى الكليني، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن [أي الكاظم] (عليه السلام)، قال: "إن فاطمة صديقةٌ شهيدة..."(31).

- الثانية: روى الكراجكي في كنز فوائده: مِمَّا حدَّثنا به الشيخ الفقيه أبو الحسن بن شاذان (رحمه الله)، قال: حدَّثني أبي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا ابن الوليد محمد بن الحسن، قال: حدّثنا الصفّار محمد بن الحسين(32)، قال: حدَّثنا محمد بن زياد، عن مفضَّل بن عمر، عن يونس بن يعقوب (رضي الله عنه)، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: (..) يا يونس، قال جدّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): ملعونٌ ملعونٌ مَن يظلم بعدي فاطمة ابنتي ويغصبها حقَّها ويقتلها، ثم قال: يا فاطمة، البُشرى، فلك عند الله مقامٌ محمودٌ تشفعين فيه لمُحبِّيكِ وشيعتكِ، فتشفعين، يا فاطمة، لو أنَّ كلَّ نبيٍ بعثه الله، وكلّ مَلَكٍ قرَّبه شفعوا في كل مبغضٍ لكِ غاصبٍ لكِ ما أخرجه الله من النار أبدا...(33).

والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.


--------------
(1) عنه (عجَّل الله فرجه) في توقيعه المعروف: وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم (كمال الدين: ج2، ب14 ذكر التوقيعات، ح4، ص511).
(2) المقطع المُناقَش [06:12] ( الوصلة: https://goo.gl/3MhmK6 ).
(3) المقطع السالف الذكر [06:33].
(4) المَقطع [08:11].
(5) المقطع [08:44].
(6) المقطع [09:43].
(7) المقطع [10:23].
(8) المقطع [12:06].
(9) المقطع [15:43].
(10) قد ذكر هذا التبرير في بعض حلقاته ولا أستحضر موضعها الآن.
(11) اسم قناته الفضائية (القمر)، وما سأتعرَّض له منشورٌ عبر إحدى القنوات المنسوبة له -بنحوٍ من الأنحاء- في اليوتيوب، والتي تقوم بتقطيع حلقات برامجه لمقاطع معنونة بعناوين خاصة، وهنالك قناةٌ أخرى تعرض حلقاته بتمامها دون تقطيع. (وصلة المقطع المُناقَش: https://goo.gl/3MhmK6 ).
(12) المقطع [13:02].
(13) والخبر الواحد هو ما لم يكن متواترًا على تقسيمٍ، وما لم يكن متواترًا ولا ذا قرينةٍ علميةٍ على تقسيمٍ آخر.
(14) راجع: موسوعة السيد الخوئي: 47 مصباح الأصول، مباحث الظن، حجية خبر الواحد، أدلة حجية خبر الواحد، الاستدلال بطوائف من الروايات، ص224 [ط6 مؤسسة الخوئي الإسلامية]. و إن أردت عبارةً أيسَر فيكفيك أن تراجع: أصول الحديث وأحكامه: ف1 في تقسيم الأخبار، الخبر المتواتر: ص23 وص35 وص37 [ط2 مؤسسة الإمام الصادق ع].
(15) مرآة العقول: ج5، ك الحجة، أبواب التواريخ، ب مولد الزهراء ع، ح2، ص318.
(16) موسوعة السيد الخوئي: 47 مصباح الأصول، مباحث الظن، حجية خبر الواحد، أدلة حجية خبر الواحد، الاستدلال بالإجماع، ص234 [ط6 مؤسسة الخوئي الإسلامية].
(17) بحسب الطبعة التي نقل منها المتحدِّث: صراط النجاة: ج2، س1607، ص468. وبطبعةٍ أخرى: صراط النجاة: ج3، س980، ص314 [ط1 نشر برگزيده].
(18) موقع مكتب السيد الروحاني: الاستفتاءات العقائدية، تاريخ الأنبياء والأئمة ع، الكود 18346-7216 ( الوصلة: https://goo.gl/uOCCr1 ).
(19) صراط النجاة: ج1، المقدمة، ص6 [ط1 نشر برگزيده].
(20) المقطع [14:06].
(21) المقطع [14:17]، وبالمناسبة، فإنّ هذا الادِّعاء غير صحيح، ومن يطالع تراث الميرزا (رحمه الله) يعرف ذلك، لا سيَّما مَن طالع الكتاب المنشور بعنوان (آراء خاصة) والذي انتقى نُكاته علي التبريزي من تراث الميرزا (رحمه الله).
(22) للاطلاع على رأي الميرزا في عدم اعتبار الكتاب: الأنوار الإلهية: ص197 [ط1 دار الصديقة الشهيدة س].
(23) الأنوار الإلهية: ص117.
(24) المقطع [2:12].
(25) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2، ب الخطب والأوامر، خ26، ص60 [ط1 مكتبة المرعشي النجفي].
(26) تلخيص الشافي: ج3، ف فيما طُعِن على...، ضربهم لفاطمة...، ص156.
(27) التفسير (العياشي): ج2، سورة الإسراء، ح134، ص307 [ط المكتبة العلمية الإسلامية].
(28) إثبات الوصية (المسعودي): قصص مولد أمير المؤمنين ع...، قصة السقيفة، ص155.
(29) الأمالي (الصدوق): مجلس 28، ح2(208)، ص197.
(30) مناقب آل أبي طالب: ج2، ب ما تفرّد من مناقبه ع، ف في مصائب أهل البيت ع، ص238.
(31) الكافي: ج2، ك الحجة، أبواب التاريخ، ب114 مولد الزهراء فاطمة ع، ح3، ص489 [ط3 دار الحديث]، وعلى طبعةٍ أخرى: الكافي: ج1، ك الحجة، أبواب التاريخ، ب114 مولد الزهراء فاطمة ع، ح3، ص458 [ط دار الكتب الإسلامية].
(32) وقد يُثار هنا إشكالٌ مفاده أنَّ الصفار لا يروي عن ابن أبي عُمَير دون واسطةٍ، فأقول موجِزًا: السند لا ريب في حصول التحريف فيه، واحتمال التحريف فيه منحصرٌ في اثنين:
- فإمَّا أن يكون تصحيحه: "الصفار [عن] محمد بن الحسين"، وهو غير بعيد، ومحمد بن الحسين هنا هو ابن أبي الخطاب، فالطريق مُعتبَر.
- وإمَّا أن يكون تصحيحه: "الصفار محمد بن [الحسن]"، والمتتبع لطرق الصفار لابن أبي عُمَير يعلم أنه ليس هنالك من إشكالٍ يستقرُّ في اعتبار طرق الصفّار لابن أبي عُمَير حتى على مبنى السيد الخوئي، وقد يورَد كلامٌ في موردَين لا بأس بالتعرُّض لهما؛ لمنع الاشتباه:
- أما الأول، فهو وقوع عبدالله بن محمد بن عيسى الأشعري في بعض طرق الصفار لابن أبي عُمَير؛ لعدم اعتبارات أمارات توثيقه لدى السيد الخوئي (رحمه الله)، فأقول: لم تؤلَف رواية الصفار عن عبدالله إلا بمعية أخيه أحمد وجه القميين وثقتهم المعروف.
- وأما الثاني، فهو وقوع الحسين بن الحسن بن أبان في بعض طرق الصفار لابن أبي عُمَير؛ لعدم اعتبار أمارات توثيقه لدى السيد (رحمه الله)، فأقول: هذه الرواية محلّ الكلام هي عن ابن الوليد، عن الصفار، والحسين ليس واسطةً مباشرةً للصفار لابن أبي عُمَير، بل يروي عن الحسين بن سعيد عنه، وقد قال الشيخ الطوسي في الفهرست -بعد أن ذكر الطريق لكتب الحسين بن سعيد المشتمل عليهما-: "قال ابن الوليد: وأخرجها [أي الكتب] إلينا الحسين بن الحسن بن أبان بخطّ الحسين بن سعيد، وذكر أنه كان ضيف أبيه...(الفهرست (الطوسي): ب الحاء، ب الحسين، ت27(230)، ص113).
(33) كنز الفوائد (الكراجكي): شرح قوله: ولعن آخر أمتكم أولها، ص150 [ط1985م دار الأضواء].

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل