التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل القتل قبيح دومًا؟

بسم الله الرحمن الرحيم

أثناء تِجوالِكَ في شبكات التواصل الاجتماعي قد تجد أحدهم يتساءل قائلاً: أ لا يعني تأييدُنا قتلَ بعض الناس أننا نشجّع على العنف؟ يريد بذلك عموم العنف، وهو محل استقباحٍ ونفور، فما جواب تساؤله؟

قبل الجواب، لا بأس بمقدّمتَين جديرتَين بأن يُلتَفَت لهما:

المقدمة الأولى: إن الأمور -من حيث اتصافها بالحُسن والقُبح- ليست على نمطٍ واحدٍ، بل على أنماطٍ متعدِّدة:
أ- فمنها: ما يكون ذاتيَّ الحُسن -أو القُبح-، فلا ينفكُّ الحُسن -أو القبح- عنها بأيِّ حال، ومثال ذلك في الحسن العدل، وفي القبح الظلم.

ب- ومنها: ما يكون فيه اقتضاء الحُسن -أو القُبح-، فهو حسنٌ -أو قبيح- إلا أن حسنه -أو قبحه- قد ينفكُّ عنه لمجيء عنوان مؤثرٍ في استمرار اتصافه بهذه الصفة أو عدمه، ومثاله في الحُسن الصدق وفي القُبح الكذب، فإن كشفك أسرار إخوتك المضطهدين المظلومين أمام الظالم المستبد -مع إضرار ذلك بهم- قبيحٌ، ولو برَّرتَ ذلك بانحصار الطريق أمامك بين الصدق والكذب ورغبتك في التنزُّه عن القبيح، لم يتغيّر رأي العقلاء في قُبح تصرُّفِكَ هذا.

ج- ومنها: ما لا يكون لا ذاتيَّ الاتصاف بأحدهما -أي الحُسن والقُبح- ولا فيه اقتضاء الاتصاف بأحدهما، بل حسنه وقبحه يخضع للعناوين الطارئة عليه، ومع نزعه عن أيِّ عنوان فإنه لا يوصَف بحُسنٍ ولا قبح، ومن أمثلته اختيارك أحد الدكاكين لشراء حاجيّاتك دون سواه، فهو لا يتصف في نفسه بقبحٍ ولا حُسنٍ إلا أن اختيارك له دون سواه لكونه في حالة عوزٍ وحاجةٍ خاصة -مثلاً- رغبةً منك للمساهمة في نجاح تجارته وسعة رزقه يُلبس اختياركَ هذا ثوب الحُسن والجمال، ولو كان اختيارك له رغبةً منكَ في تشجيعه على بيع ما يحرم بيعه -مثلاً- كالمُسكِرات وغيرها، فإنك تُلبِس اختيارك ثوب السوء والقُبح.

المقدمة الثانية: وهنالك تقسيمٌ آخر للأمور وهو بلحاظ إدراك اتصافها بالحُسن أو القبح، وعلى هذا الأساس فإنها تنقسم إلى:
أ- ما يتمكَّن العقلُ من إدراك حُسنه أو قُبحه بالضرورة والبداهة، كإدراكه حُسن الإحسان وقُبح العدوان.
ب- ما يتمكَّن من إدراك حُسنه أو قُبحِه بالبحث وإعمال الفكر والنظر سواءً كان بسيطًا أو معقَّدًا، كحُسن إرسال الرسل والأنبياء وقبح انتفاء المساواة بين المحسن والمسيء.
ج- ما لا يتمكَّن العقل من الاستقلال لوحده في طريق إدراك حُسنه أو قبحه لا بالبداهة ولا بالنظر، كحُسن صوم يوم الشك بين شهرَي شعبان ورمضان وقُبح صيام يوم العيد؛ فإنَّ ذلك إنما ينكشف من خلال أمر الشرع به أو نهيه عنه.

والقدرة على إدراك الحُسن والقُبح في غير البديهيات كثيرًا ما تتوقَّف على: الاطِّلاع على حيثيات وظروف الأمور وملابساتها، والأهلية والقدرة على تشخيص وتقييم الموقف منها.

وأما بعد هاتين المقدِّمتَين، فالجواب هو: العنف من الأمور التي تقتضي القُبح، لكن ذلك لا يعني عدم انفكاكه عنه، فلو حصل اعتداءٌ على زوجة أحدهم -مثلاً- مع عدم القدرة على ردع وإيقاف اعتدائه بغير العنف، فليس هنالك عاقلٌ يذمُّ ويُقَبِّحُ هذا التصرُّف العنيف، وكذا الحال لو قام مقاتلٌ باستخدام سلاحه في الدفاع عن المستضعفين في وجه الظالم الباطش، وعليه فإنَّ تأييدنا قتل البعض كالمستحقين له من معتدين وظَلَمة لا يعني تأييدنا لمطلق العنف، بل لأفرادٍ معيَّنةٍ منه قد طرأت عليها بعض العناوين التي ألبسته ثوب الحُسن. مع أهمية الالتفات كذلك إلى أنَّ للحُسن والقُبحِ مستويات ودرجات، ولذلك آثار تترتب في التعاطي معها والإثابة أو العقاب عليها.

والسلام والصلاة على محمدٍ وآل محمد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب

الأسئلة (١٠): وفاة الحوراء في منتصف رجب ◄ السؤال: هل القول بوفاة السيد زينب (عليها السلام) في نصف شهر رجب ثابت ويملك دليلاً معتبرًا قويًّا؟ ◄ الجواب: هذا هو القول المعروف المتداول المُلتَزَم به، إلا أن ذلك مبتنٍ على التسامح في هذه الموارد؛ إذ هذا ما يدل عليه حال الأدلة والاستدلالات التي ذكرها العلماء (رضوان الله عليهم وحفظ الأحياء منهم وأدام بركاته) في هذا الصدد. وبيان ذلك أن غاية ما يُستَدَل عليه في تحديد هذا التاريخ لوفاتها (عليها السلام) هو: ١. ما جاء في كتاب «أخبار الزينبات» -المنسوب للعبيدلي (رحمه الله)-، ونصُّه: "حدّثني إسماعيل بن محمد البصري عابد مصر ونزيلها، قال: حدّثني حمزة المكفوف، قال: أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي، قال: سمعت هند بنت أبي رافع بن عبيد الله، عن رقية بنت عقبة بن نافع الفهري، تقول: توفيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد، لخمسة عشر يومًا مضت من رجب سنة ٦٢ من الهجرة، وشهدتُ جنازتها، ودفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدة بالحمراء القصوى حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" ( ١ ) . فإن السند غير معتبر، وحت

تعليقٌ على كلام الشيخ الغروي حول البحارنة

‏انتشرت قبل أيام مقاطع ثلاث للمؤرخ الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي (حفظه الله)، يتحدث فيها حول «ابتلائنا بالشيعة البحارنة» -على حد تعبيره- وذلك في ما يرتبط بجعل الروايات ونقل المجعول منها؛ وذلك لأنهم أخبارية فلا يرون حرمة الكذب «لأهل البيت علیهم السلام»، ‏ولأجل استمرار تداول هذه المقاطع والسؤال عنها حتى هذه اللحظة وسعة انتشارها وغير ذلك، أحببت التعليق ببعض كلماتٍ أرجو بها الخير والنفع، لكني أقدِّم لذلك بأمرَين: • أولهما: الشيخ (حفظه الله) مؤرِّخٌ وصاحب مؤلفات نافعة، ولا يعني تعليقي هاهنا أنّي أرى غير ذلك إطلاقًا، بل أحترمه وأجلّه. ‏• وثانيهما: لا تعني نسبتي بعضَ الأمور لعلماء إيران أني أرى علماء إيران أقل شأنًا أو أني أنكر فضلهم في التشيّع، في الساحة العلمية وما هو أوسع منها، لا من بابٍ قوميٍّ ولا من سواه، بل إني أحترم وأقدّر حتى مَن سأشير لهم بالخصوص، بل ولا ألتزم ما يُدّعى في نقلهم ورواياتهم. ‏المقاطع الثلاث مأخوذةٌ من ندوةٍ لسماحة الشيخ بعنوان «النبي والوصي في آيات الغدير»(١)، أُقيمَت في أحد مرافق العتبة العباسية في كربلاء المقدسة، وذلك في ٣٠ أغسطس ٢٠١٩م، أي قبل نحو عامٍ من هذه الأ

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان

الأسئلة (١٣): أدعية أيام شهر رمضان ◄ السؤال: يُقال إن أدعية أيام شهر رمضان القصار المعروفة لم ترد في أي مصدر من مصادر الشيعة والعامة، وأن الشيخ عباس القمي نقلها لسد الفراغ فقط، لا اعتمادًا عليها، وأن تعابيرها ركيكة بالإضافة إلى أن تحديد ليلة القدر فيها لا يناسب ما نعتقده نحن الشيعة، وأنها موضوعةٌ لا مشروعية ولا صحة للعمل بها، فهل ذلك صحيح؟ ◄ الجواب: لا إشكال في أن الأدعية المذكورة ليست معتبرة النسبة للمعصوم، لكن الإتيان بها جائزٌ بناءً على المعروف بين علمائنا من العمل بقاعدة «التسامح في أدلة السنن» أو قاعدة «رجاء المطلوبية»، إلا أن يدلّ دليلٌ على وضعها، بل حتى لو دلَّ دليلٌ على وضعها، فلا إشكال –على الرأي المعروف بين علمائنا- في قراءتها دون التزام نسبتها للشارع المقدس . وبيان ذلك: أقدم من ظفرتُ بذكره لهذه الأدعية المعروفة هو السيد علي ابن طاوُس (عليه الرحمة) في كتابه «الإقبال»، حيث يذكر هذه الأدعية موزَّعةً على أبواب أيام شهر رمضان بدءًا من الباب الخامس وحتى الباب الخامس والثلاثين (١) ، وبعده ذكرها الشيخ الكفعمي (رحمه الله) في كتابَيه «البلد الأمين» و«المصباح» نقل